أحياناً لا ينجح المراقب المحترف في رصد أي تحوّل في العلاقة بين بلدين في حين تشهد هذه العلاقة أحياناً أخرى تدهوراً حادّاً ومفاجئاً. فالأزمة التي برزت في العام الحالي بين إسرائيل وتركيا تندرج لا شك ضمن الفئة الثانية وإسرائيل هي الملامة الأولى على ذلك. قد يفاجأ كثيرون بأن العلاقة بين إسرائيل وتركيا كانت جيّدة على مدى عقود. ففي آذار (مارس) 1949، كانت تركيا أول بلد إسلامي يعترف بدولة إسرائيل، وفي ظل الإمبراطورية العثمانية، درس عدد ممن أصبحوا لاحقاً سياسيين إسرائيليين مثل ديفيد بن غوريون، في اسطنبول. وخلال الحرب العالمية الثانية، فرّ عدد من اليهود الأوروبيين إلى تركيا. لقد انتقدتُ على مدى ما يزيد عن عشر سنوات الشراكة الاستراتيجية الإسرائيلية - التركية التي سمعتُ أكاديمياً إسرائيلياً يصفها عن طريق المزاح على أنها بمثابة شراكة بين طرفين سيّئين. وعندما تمّ الإعلان عنها لأول مرة، اعتبرتُ أنها خطأ فادح ارتكبه البلدان ولا أزال أعتقد ذلك. استمدّت إسرائيل، التي ترى نفسها عرضة دائمة للتهديد، طمأنينتها من شراكتها الجديدة مع تركيا وهي بلد يضمّ اليوم 71 مليون نسمة كما أنه عضو في حلف شمال الأطلسي. قد تفتقد تركيا المعدات العسكرية المتطوّرة إلا أنها كانت لاعباً عسكرياً قوياً يحظى بجيش كبير وقاعدة صناعية واسعة. في ذلك الوقت، وإبان انتهاء الحرب الباردة، شعرت تركيا بأنه لم يكن مرحباً بها. فقد أبدى الاتحاد الأوروبي عدم تأييده طلبها الانضمام إليه. وكان ثمة خلاف تاريخي على الحدود واختلاف في الآراء حول المياه مع سورية. كما لم تكن تركيا تثق بالرئيس صدام حسين وكانت في حالة حرب مع «حزب العمال الكردستاني». وجاءت الشراكة مع إسرائيل نتيجة مبادرة تركية طرحها الجنرالات الأتراك وحظيت بدعم لافت من الولاياتالمتحدة. اعتبر البعض في الكيان الإسرائيلي أن هذه الشراكة مهمّة بقدر أهمية معاهدة السلام مع مصر. ورأت إسرائيل أن لها مصالح استراتيجية مشتركة مع تركيا في هذه المرحلة من تاريخهما ورحّبت بفكرة تعاون بلدين غير عربيين واضطلاعهما بدور قيادي في الشرق الأوسط. كما اعتبرت تركيا أن هذه الشراكة تشكّل تحوّلاً كبيراً في سياستها الخارجية وعاودت التركيز على الشرق الأوسط بعد انهيار الشيوعية. جلبت الشراكة فوائد عسكرية وتجارية للشريكين، فراحت القوات الجوية التركية تتدرب في إسرائيل فيما بدأت القوات الجوية الإسرائيلية تتمرّن فوق الأراضي التركية الشاسعة. وكانت إسرائيل متلهفّة لاستخدام المرافئ التركية من أجل غواصاتها الألمانية الصنع والمزوّدة بصواريخ نووية. وقبيل نهاية ولاية رئيس الوزراء إيهود أولمرت، كرّس نظيره التركي رجب طيب أردوغان وقتاً طويلاً ومجهوداً كبيراً للتوسط بين إسرائيل وسورية، ولا شك أنه كان مدعوماً من خلف الكواليس من وزارة الخارجية الأميركية. ويبدو أن تركيا شكّلت الخيار الصائب للاضطلاع بهذه المهمة الأساسية كونها بلداً مسلماً وشريكاً استراتيجياً لإسرائيل. وقيل لنا مراراً وتكراراً أن اردوغان على وشك إبرام صفقة تهدف إلى إعادة هضبة الجولان إلى سورية. ومن ثمّ شنت إسرائيل حربها المجنونة والبغيضة على قطاع غزة، ما صدم رئيس الوزراء أردوغان. وقد انسحب من دافوس واتهم الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز بأنه «كاذب» مضيفاً أنه «عندما نأتي للحديث عن القتل فأنتم تجيدون القتل جيّداً». ولاقى رد فعل أردوغان ترحيباً واسعاً في جميع أنحاء العالم الإسلامي. فقد قام أخيراً زعيم وطني بانتقاد إسرائيل أمام رئيسها. وفي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، ألغت تركيا من دون إعطاء مهلة كافية مناورة عسكرية مع إسرائيل بسبب العداء الكبير الذي يكنه الشعب التركي لإسرائيل. ولو حصلت هذه المناورة فإن عدداً من الطيارين الاسرائيليين الذين دمروا معظم قطاع غزة كانوا سيشاركون فيها في الفضاء التركي. كما علمنا ايضاً أنه تمّ إلغاء عدد من المشاريع العسكرية مع إسرائيل والبالغة قيمتها حوالى بليون دولار. في السنة الحالية، قرّرت الحكومة التركية أن تعيد النظر في سياستها الخارجية المستقبلية. وأنا متأكد من أنها لا ترغب في أن تقطع علاقتها بالاتحاد الأوروبي أو بالولاياتالمتحدة لكنها تبدو مستعدة لقطع علاقتها بإسرائيل. وردّاً على ذلك، أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو أنه لا يمكن النظر إلى تركيا بعد الآن على أنها وسيط غير منحاز إذ إنها تحالفت مع العرب ضد إسرائيل. فهل يعي رئيس الوزراء نتانياهو أن بلده لم يعد يملك اليوم الكثير من الأصدقاء وأن علاقته التي كانت قوية بالولاياتالمتحدة تعاني الفتور؟ وهل يدرك أنه مسؤول عن الوضع الراهن؟ يبدو أن عجرفة السياسيين الإسرائيليين لا تعرف حدوداً وأن كثيرين من الإسرائيليين دعموا تدمير جزء كبير من قطاع غزة. وكانت تركيا أفضل من يساعد على التوصل إلى اتفاق حول هضبة الجولان. ويبدو أن وزارة الدفاع الإسرائيلية قد اقتنعت أن هذه المنطقة المرتفعة تتسم بأهمية استراتيجية محدودة. * سياسي بريطاني ونائب سابق