«يكتب في رسالة إلى صديقه الرسام الأميركي إميل برنارد»، حين قرأت هذه الجملة توقفت عن القراءة مصدوماً. مَن كتب الرسالة هو الرسام فنسنت فان غوخ. والمقال الذي وردت فيه هذه الجملة كتبه شاعر رغب في أن يشاركه القراء سعادته برسائل فان غوغ التي كُشف عنها أخيراً. طبعاً الموهبة الأدبية التي كان يتمتع بها فنسنت لم تكن خافية على أحد كما أوحى بذلك كاتب المقال. قراء العربية يعرفون ذلك من خلال يوميات فنسنت التي نشرت في جزأين قبل عقود. لكنّ المشكلة ليست هنا، بل في المعلومة الخاطئة التي تضمنتها تلك الجملة. فبرنارد المقصود ليس أميركياً، بل هو رسام فرنسي (ولد في ليل عام 1868 وتوفي في باريس عام 1941). يمكنني التأكيد هنا أن أي مرجع فني تاريخي لا يمكن أن يكون سنداً لخطأ من هذا النوع، لذلك فهو خطأ غير مسموح به، لأنه لا يتعلق بحكم نقدي أو وجهة نظر بل بمعلومة تاريخية مؤكدة. حين اكملت قراءة المقال وجدت أن كاتبه ارتكب هفوتين أخريين: الاولى تتعلق بإلصاق صفة (الاجنبية) باللغة الفرنسية التي كتب فنسنت فيها رسائله، بحيث ان تلك اللغة لم تكن أجنبية بالنسبة الى الرسام، ذلك لأنها كانت اللغة التي تعلم من خلالها كل شيء وبالأخص الرسم واللاهوت. اما الهفوة الثانية فتكمن في اعتقاد كاتب المقال أن فنسنت كان على وشك أن يصبح راهباً في حين أن الوقائع التاريخية تقول إنه كان في طريقه إلى أن يصبح قساً. والفرق كبير. لا على مستوى المهنة، فحسب بل وأيضاً على مستوى الفكرة. ولكن ما الذي يدفع الى ارتكاب أخطاء من هذا النوع، في نص هو في أساسه إخباري، ولم يكن نصاً نقدياً؟ غالباً ما يرغب شعراء عرب في الكتابة عن الفن التشكيلي، لا من أجل أن يتعرفوا على عالم ابداعي مجاور بل من أجل أن يعبروا عن مشاعرهم المضطربة ازاء نوع الجمال الذي لا ينفذ إلى اعماقهم، بل يحرك حساسيتهم المرهفة. ولأنهم يجهلون أسرار اللغة التشكيلية فغالباً ما تنحرف كتاباتهم في اتجاه أوهام تعبيرية، يغلب عليها طابع الخيال الوصفي، وهو خيال يخون التجربة الجمالية التي تستخرج نتائجها من سياق معرفي خاص بها. لقد فعلها الكثيرون من قبل: ادوار خراط، عبدالرحمن منيف، عبد الكبير الخطيبي وآخرون. لكن كتابات المذكورين وإن كانت لا تنفع في شيء على مستوى الانفتاح على عالم الفن واستيعاب جمالياته من الداخل غير أنها لم تكن تضر. ذلك لأنها لم تسمح لنفسها في نشر معلومات خاطئة. يقينا أن هناك نيات حسنة لدى كل من كتب حرفاً في محاولة منه للتعبير عن متعته الجمالية، غير أن تلك النيات لم تصنع تأريخاً في الكتابة النقدية المتخصصة في الفن التشكيلي. ليس أمامنا سوى ركام هائل من الصفحات التي سوَّدها كتاب معروفون وآخرون مغمرون، تخلو من أية معلومة مفيدة. وكما أعرف فإن أولئك الكتاب شعروا بالغيرة من شعراء من نوع بودلير وأبولينير وهربرت ريد (كتب الأخير الشعر في بداية مسيرته الأدبية)، وهم على حق في غيرتهم. غير أن ما أنا على ثقة منه أن أولئك الكتاب لم يتفحصوا جيداً الإرث النقدي الذي تركه الشعراء الثلاثة الذين كان لهم أبلغ الأثر في مسيرة الفن التشكيلي في عصرنا. فالأول هو من صاغ مفهوم الحداثة الفنية والثاني هو من اخترع للتكعيبية اسمها أمّا الثالث فلا يزال المؤرخ الأهم في مسيرة الحداثة الفنية. العودة إلى جزء من كتابات الشعراء الثلاثة تجعلنا نفهم بيسر أن الثلاثة كانوا مقيمين داخل الجوهر الذي تصدر عنه التحولات الفنية. لذلك لم تكن كتاباتهم انشاء وصفياً لما شاهدوه، بل كانت بعثاً للمواقع الحية الكامنة في التجربة الفنية المعاصرة. ما لم يعرفه الكثير من كتابنا ان للفن التشكيلي لغته الخاصة. لغة بأبجدية وقواعد وتقنيات ومواد تصدر عنها معرفة دقيقة ومعقدة لا تتمكن المشاعر الخفيفة من القبض عليها بيسر. وكما ارى فإن الفنانين العرب محقون نوعاً ما في تبرمهم من الكتابات التي تدعي النقد الفني. فتلك الكتابات وبسبب افتقار أصحابها على أي نوع من الدراية بلغة الفن لا تفصح على الأقل عن قدرة على التمييز بين ما هو نافع للفن من جهة استناده إلى سياق البحث الروحي والمادي الخالص وبين ما هو مضر بالفن بسبب تكريسه للقيم الجمالية السوقية. ولأن الثقافة العربية (من ضمنها الفن) تمر في مرحلة تغلب عليها قيم الاستهلاك بمستوياتها المتخلفة فإن الفنانين الجادين (وهي تسمية لا أحبها غير أنني مضطر لاستعمالها هنا فقط) يشعرون بخطر الكتابات التي تروج لكل شيء يدعي الفن وإن لم يكن فناً حقيقياً. قد يقال إن خطأ صغيراً ورد في مقالة جانبية قد لا ينتبه إليه أحد لا يستدعي نبش المواجع. ولكن أليس صحيحاً أن السكوت على الأخطاء الصغيرة لا بد من أن يؤدي إلى تراكم الأخطاء بما يشيد سداً بيننا وبين الحقيقة؟ وهو ما جرى لنا حقاً في مجال الكتابة النقدية التي تزعم التخصص في الفن. فمنذ أكثر من خمسين سنة والعرب يكتبون عن الهوية والتراث والأصالة والمعاصرة والبعدين الانساني والقومي في الفن من غير أن تتبلور نظرية جمالية يحق لنا أن نقول بسببها: هي هذه المساحة التعبيرية التي يمكننا من خلالها أن نخاطب البشرية. لا يزال النتاج الفني العربي مرآة مشوشة تعكس صورة ما يجري في الغرب من تحولات فنية، ولا تزال السوق تلتهم الجزء الأعظم من مواهبنا الفنية وتدمرها ولا تزال مهنة (مدير أو صاحب قاعة فنية) ممكنة لأي شخص أمي لا يفقه في شؤون الفن شيئاً. لو كان الأساس المعرفي حاضراً في صلتنا بالفن لما أنتهينا إلى مثل هذه الحال. ما نحتاجه فعلاً أن نكون قساة معرفياً مع النفس لكي يكون في إمكاننا أن نتعرف على الجمال في صورته المثلى. كان خطأً صغيراً غير أنه الخطأ الذي يكشف عن ركاكة وجودنا المعرفي.