لم يحمل غلاف الديوان سوى اسم وحيد هو «جنان»، أما الشعر فتوزّع بين قصائد وتأملات بالفصحى وأخرى بالعامية النبطية، والشاعرة هي من الإمارات واكتفت بعنوان موقعها على الإنترنت. وهي أيضاً وفق اللوحات الحروفية والخطية التي ضمّها الديوان، فنانة في الخط العربي، ترسمه بالألوان جاعلة منه فضاء فنياً للاختبار التشكيلي الجميل والحديث. هكذا، يلتقي في هذا الديوان الصادر عن دار السويدي في الإمارات، فن الشعر وفن الخط ليصنعا عالم هذا الديوان الذي يبدو أنه الأول للشاعرة، وقد ضمّنته كما تشير في المقدّمة الأشعار التي دأبت على كتابتها خلال بضع سنوات. ما يفاجئ في هذا الديوان، أنه ديوان في الغزل والحب، بل لعلّه يميل الى أن يكون ديوان حب مشبعاً بالوجد والصوفية، تحتفل قصائده والتأملات التي رافقتها، بأحوال العشق ومقامات الوله الذي يشتعل في «الحشا» والابتهال والاختلاج والمقاساة. ولعلّ ما يفاجئ في الديوان أيضاً، أن صاحبته تتكئ على لغة ومفردات باتت نادرة في شعر الحب المعاصر، ويشهد على هذا معجمها الشعري الذي تضرب جذوره في أديم التراث الشعري العربي، الغزلي والصوفي، مع انفتاح على نواحٍ من الشعر العالمي الذي يتجلّى خصوصاً عبر شعراء عُرفوا بنزعاتهم الوجدية، مثل حافظ الشيرازي وعمرالخيام وطاغور وأوفيد... يشعر قارئ هذا الديوان، أن صاحبته جنان التي تكني نفسها ب «جنان الجنون والحنان»، هي سليلة الشعر العربي، وتحديداً شعر الغزل والحب العربيين، في مدارسهما المتعددة التي أرساها جميل بثينة وعمر بن أبي ربيعة وشعراء الموشحات الأندلسية، إضافة الى الشعراء الصوفيين الذين غلب على حبّهم الميل الروحاني من دون أن يغيب عنه البعد الحسّي الشفيف. مفردات وعبارات تنبع من أعماق الوجد العربي، وكأنها طالعة من معجم «مصارع العشاق» للسراج أو «طوق الحمامة» لإبن حزم، وسواهما من كتب الحب ودواوينه. وما يؤكد هذا التوجّه، ورود مقولات في العشق تبدو ضاربة في تربة التراث العربي الذي تفرّد شعراؤه في مسألة العشق والهوى والهيام، ومن هذه المقولات: دمع الصبا، الصب، محراب الحبيب، السلوان، الشغاف، الصبابة، سقيا اللمى، كليم الهوى، الخليل، التتيّم، العذّال، الوصال... هذه المقولات إنما تعبّر عن أحوال الحب العاصف الذي يخالج الشاعرة، وقد شاءت أن تجسد هذه الأحوال بصبواتها وتجلياتها في لغة تميل الى الأصالة وتحفرعميقاً في ذاكرة الوجد العربي. وكم بدت لغة الشاعرة محفوفة بحميّا الهيام، لغة تختلج وتقاسي وتهيم وتهوى، بوصفها أداة وغاية، لغة تعبر عن أهواء الروح العاشقة وتجسّد هذه الأهواء في آن واحد. تقول الشاعرة: «إني اسميه الحب/ بحروف اسمك/ لا تبحه» أو تقول: «غرام مجنون يجتاح كلّي»، أو: «سلوت من كثر العنا» و « ذبت حنيناً يا حبيب»... تكتب الشاعرة قصائدها معتمدة لغة وسيطة تجمع بين الصنعة المتينة والعفوية أو السليقة في آن واحد. ولقاء هاتين النزعتين في شعرها يشكّل ظاهرة لافتة، فهي بينما تولي القصيدة اهتماماً جمالياً متخيرة ألفاظها وسابكة جملها، تحافظ على الاندفاع الشعري والصبوة الوجدية، فتتخطى حاجز اللغة وقواعدها جاعلة من القافية ذريعة للتسجيع. كأنها تكتب كما تحسّ، وتحيا اللحظة الشعرية ولكن انطلاقا من خلفية ثقافية تبدو الشاعرة عبرها متعمّقة في أحوال الشعر وقارئة لعيون التراث العربي. إنها سليلة هذا التراث، وإن تحرّرت من أسر الأوزان في أحيان من شدة التوهج والوجد الذي يقارب الوجد الصوفي في اتقاده الروحي: «سر بي أنى شئت يا هوى»، تقول، أو: «هي صلاة في محرابك حبيبي»، «يخالجني هواه/ يراقص الخفّاق»، «الهم قد أودى بصبري»... أما حين تتحدث الشاعرة عن الساقي والراح والندامى، فتذكرنا بجو الشعر الصوفي عندما يرسخ رموزه كما لدى ابن الفارض وحافظ الشيرازي، المرتبطة بالثمل الروحي والحسي. لكنّ شعرها لا يخلو أيضاً من أبيقورية عمر الخيام، هذا الشاعر الكبير الذي ارتقى بالشعر الحسي النشوان الى مصاف الفلسفة والتأمل. يبقى أن نشير الى أن اللوحات الحروفية التي نشرتها الشاعرة في الديوان، تمثل تجربة مهمة وطليعية في عالم الخط الموغل في فنيته وأبجديته التشكيلية، وجمالياته النابعة من فن الخط والتجريب الشكلي والتلوين. وتستحق لوحاتها الحروفية هذه، أن تصدر في كتاب فني خاص، أو أن يقام لها معرض مستقل.