الصوت المنبعث من خلف الباب المغلق يرجح أحد احتمالين: إما أن يكون بعضهم يجري إحياء لحرب طروادة بملحمتيها الشهيرتين، أو أن فتيل «أرماغادون» المرتقب قد اشتعل من داخل تلك الغرفة القابعة في بيت الأستاذ حسن الذي رُزق وزوجته أربعة ذكور. ولا تلبث ملامح القلق التي أوشكت أن تتحول رعباً مشوباً بالفزع على وجه الضّيفة، ان تتبدد في ضوء طمأنتها من جانب ربّة البيت بهدوء لا يخلو من برود بأن «لعب الصبيان كده»! هذه ال«كده» التي بدت جزءاً من حياة الأم اليومية، كفيلة في رأي الضيفة بإصابتها بانهيار عصبي مسبوق بسكتة دماغية، فأسرتها، وعلى رغم وجود ذكور فيها، تتمتع بهامش أكبر من التعايش السلمي الذي تعلل اتساعه بهيمنة الجانب الأنثوي في التركيبة الأسرية. وتقول الضيفة إن ل«سلمى وسالي أثراً كثيراً في شخصية أخيهما الأصغر سامر، الذي يميل في لهوه واهتماماته إلى النواحي الفنية والتعبيرية». وجود سامر (12 سنة) في بيت سبقته إليه اختان جعله مختلفاً بعض الشيء عن أقرانه ممن يعيشون مع أشقاء من الذكور فقط. فسامر، بحسب والدته، نشأ على طرق في اللعب والترفيه «بنّاتي»، وكثيراً ما كان يشارك شقيقتيه في لعبة «البيت» حيث كانت الأختان تقومان بدور الأب والأم، ويعهد إليه بلعب دور الابن الصغير. ليس هذا فقط، بل أن أسلوب سلمى وسالي في الدفاع عن شقيقهما الأصغر في المدرسة يعتمد على دوائر العلاقات الاجتماعية في داخل المدرسة، وليس على ميلهما إلى التهديد بضرب من يضايقونه أو الانخراط معهم في مشادة كلامية بعد ساعات الدراسة. وعلى رغم أن سامر، وبحكم وقوفه على أعتاب مرحلة المراهقة بدأ يعتمد على نفسه في مثل تلك الأمور، ما زال ميالاً إلى الاعتماد على الحنكة الفكرية وليس القوة العضلية في حلّ المشكلات. وهذا الميل يصنفه قاطنو البيت الأول تحت بند التصرفات ال«فافي»، أي العارية من الرجولة والإقدام. عشرات القصص والحكايات يمكن أن يحكيها الأخوة الأربعة الذين تراوح أعمارهم بين 12 و19 سنة، فكم من مرة تجمهروا خارج المدرسة لتلقين أحدهم درساً، أو بغرض استعراض قوة، عددية وعضلية، كي يتعظ كل من تسوِّل له نفسه مضايقة الأصغر سناً أو أحدهم. وتتعامل والدتهم مع الموقف باعتباره أمراً واقعاً. وصحيح إنها اعتادت جوّ «الخشونة» السائد في البيت، إلا أن زوجها كثيراً ما يعبر عن رغبته الشديدة في إنجاب بنت «تطري» جو البيت. ويقول: «أنا شخصياً نشأت بين خمسة أخوة من الذكور، وعلى رغم أني صعيدي، تمنيت أن يرزقني الله ابنة لأنني أشعر أحياناً بأني فقدت القدرة على التعبير عن مشاعري، سواء الغاضبة أو السعيدة». المنظومة الصعيدية التي أشار إليها والد الصبيان الأربعة، تتمكن من كثير من الأسر المصرية، حتى تلك التي لا تنتمي إلى الصعيد إلا بالبحث في الجذور التاريخية. فما زال الأبناء الذكور في داخل العديد من الأسر يحظون بمقدار أكبر من التقدير، وما زالت القيود المفروضة على تعبير الرجل أو الشاب أو حتى الطفل الذكر عن مشاعره قائمة، فبكاء الطفل يحرمه من لقب «رجل» ويسمه بالتصرف «البناتي»، وإطلاق العنان للتعبير عن المشاعر والأحاسيس تضييع لوقت الرجال، واختلاس سويعات للعب بدمية الشقيقة فضيحة تستحق التشهير. وبعيداً من القوالب الثابتة والأنماط الجامدة التي أكل على بعضها الزمان وشرب، يمكن القول إن واقع الحال كفيل بأن يضرب عرض الحائط العادات والتقاليد البالية. أحمد مهندس في منتصف الأربعينات من العمر، يقول إن في إمكانه اليوم أن يواجه نفسه بالحقيقة التي طالما أنكرها: «ليس لي إلا شقيقة واحدة أكبر مني، وكعادة الكثير من الأسر المصرية، كانت الأولوية لي دائماً في الخروج والترفيه، وكان والدي دائماً يذكرني بدوري في حماية شقيقتي لأنني الذكر، لكن ما حدث هو أنها التي كانت تمنحني الحماية الحقيقية، فكم من مرة توسطت لدى والدي ليسامحني على ذنب اقترفته، وكم من مرة لم أجد سواها لتسمع مشاكلي وتطمئنني في الأوقات الصعبة، حتى أن الفضل يرجع اليها في أن أتزوج بمن أحببت والتي كان والدي ووالدتي يعترضان عليها». ويعتبر وجود أشقاء وشقيقات في بيت واحد يعزّز الشعور بالحماية، «لكن الحماية ليست مجرد ضلوع في معركة بالأيدي، أو تراشق بالكلمات، أو استعراض أخوي للعضلات، اذ قد تكون أذناً صاغية أو قلباً محباً أو عقلاً مؤيداً أو جميعها». و«العزوة» أو الشعور بالقوة النابع من وجود أشقاء وشقيقات جزء لا يتجزأ من الأسرة المصرية. وقد تختلف معايير «العزوة» من أسرة إلى أخرى، أو تراوح مؤشراتها بحسب مكوّناتها من حيث الجندر، وقد تخضع لتغيير أو تعديل أو حتى تحسين يحقق مقداراً من الخروج عن النمط التقليدي لحصر أدوار الشقيقة في المشاعر والأحاسيس والشقيق في القوة والبأس، لكنها تظل «عزوة» مطلوبة وقائمة.