خمسون عاماً مرت على صدور ديوان «مدينة بلا قلب» للشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي عن دار «الآداب» في بيروت. صدر ديوان «مدينة بلا قلب» عام 1959، في وقت كانت دار «الآداب» تتبنى تيار القومية العربية بكل ألوانه، وهو لم يكن مقتصراًَ على مجموعة من الشعراء الأفراد، بل كان يمتد في البلدان الناهضة حينذاك، مثل مصر وسورية ولبنان والعراق، وكان الشعر يلعب دوراً بالغ الخصوبة في تفعيل روح هذا التيار. كان ديوان «مدينة بلا قلب» إحدى ثمرات هذا الاتجاه، وكانت معركة الشعر الحديث، في مواجهة الشعر القديم، قد امتدت الى الصحف والمجلات، وتبنت مجلة «الآداب» دعم الشعر الحديث، وكانت مجلة «الرسالة الجديدة» تنشر مقالات سجالية بين محمود أمين العالم، ونجيب سرور، وعباس العقاد، وتوفيق الحكيم، وسواهم، وكان أحمد عبد المعطي حجازي أحد الشعراء الممثلين للشعر الجديد، وكان شعره مثاراً للجدل قبل أن يصدر ديوانه الأول. وهكذا صدر الديوان مصحوباً بمقدمة نقدية طويلة واحتفالية لأحد أبناء الجيل الجديد، وهو الناقد رجاء النقاش الذي كان آنذاك مراسل مجلة «الآداب» في القاهرة. جاءت المقدمة شارحة في شكل تفصيلي، قصائد الديوان، فضلاً عن أنها تضمنت بعض أخبار عن الشاعر ذاته، وعن فقره، وعن قريته في شمال مصر ودور ذلك في تخطيه مرحلة الرومنطيقية، إلى مرحلة الواقعية، «التي تغوص في الحياة أكثر، وترتبط بالأرض في شكل أوثق، فجاء كلمات الشاعر شديدة الالتصاق بحياته، وهكذا فإن إيمانه بالكلمة الحرة الطليقة، هو وسيلة التطهير نفسه بما فيها من قلق واضطراب وضيق، وكوسيلة لعلاقته بالناس الذين يحبهم ويرتبط بهم ومعهم بأكثر من رباط، بعيداً من تمزق المدينة وزيفها. يبحث أحمد حجازي عن عقيدته منذ تفتح وعيه على رؤية الحياة». هنا يسترسل النقاش، فيذكر أنه اطلع على الديوان الأول، الذي لم ينشره الشاعر، ويعمل على ربط هذا الديوان (الصفر) بالديوان الأول، مدللاً على أن هناك نقلة نوعية حدثت للشاعر، وبالتالي للشعر. وتنتهي دراسة النقاش نهاية احتفائية كبرى يقول فيها: «فإلى القارئ والتاريخ هذا العمل الفني العظيم، الذي هو وثيقة على عصرنا، تصور جيلنا، إنه عمل فني يقول لنا بوضوح: من نحن، وفي أي عصر نعيش، ثم هو فوق ذلك فن مكتمل الأداة موفور النصيب في ميدان الموهبة والاجتهاد على السواء». وإذا كانت هذه الدراسة أجملت كل أشكال الاحتفاء، فإن عباس العقاد اتخذ موقفاً مضاداً. وجاءت الاستجابة الأولى من بيروت، من الاتجاه المناوئ أيضاً، فكتب عن الديوان الشاعر أنسي الحاج وكان في العشرين من عمره، مقالة نشرت في مجلة «شعر» (العدد العاشر – ربيع 1959)، وبالطبع كانت هناك ملاحظات سلبية على مقدمة النقاش وعلى الديوان نفسه. فهو لا يعترض في البداية على طول الدراسة النقدية، وإنما رأى أن سعة اطلاع الناقد جعلته يسترسل في تقريبات (مثل تقريبه بين حجازي وإليوت) وشروح واستطرادات، لا تستوجبها المجموعة الشعرية بذاتها. وتوقف الحاج عند قصيدة «العام السادس عشر» التي يعطي فيها حجازي صورة عن نفسه عندما كان لا يزال مراهقاً يتصور ويحلم ويضع أمامه مثالاً ليقلده، ثم يدعو الآخرين إلى تخطي التجربة مثلما تخطاها. وتوقف الحاج كذلك عند قصيدة «كان لي قلب» قائلاً: «هنا شاب ينهض فجأة عن سرير عشيقته بينما هي تبتسم في طيبة وترد انبثاقة نهدها وراء الثوب، ويجمع الليل في سمته، ويلفق الوجود الرحب في صمته وفي صوته». ويصف قصائد «الطريق إلى السيدة» و «إلى اللقاء» و «مقتل صبي» بأنها قصائد تنفير من المدينة وتحبيب بالريف، ويصدمنا أحياناً – كما يقول الحاج – تفصيل جاف لعل واجبات التقفية هي المسؤولة عنه. وفي الناحية الأخرى كان هناك زكي نجيب محمود الذي كان ينتمي – في الفن – إلى وجهات نظر تعد شبه ثابتة، وكان يكتب ويصدر عن ثقافة شاملة وواسعة. وعلى رغم ذلك لم يستطع أن يستوعب الكتابة الشعرية الجديدة، فكتب سلسلة دراسات تحت عناوين متهكمة «لمن يغني الشاعر بشعره؟» و «ما الجديد في الشعر الجديد؟» و «ما هكذا الناس في بلادي» معلقاً على ديوان صلاح عبدالصبور الأول، ثم «كان لي قلب»،. وهو في هذه الدراسة توقف أمام هذه القصيدة – فقط – كما توقف أمامها النقاش والحاج، لأن القصيدة تمثل عصباً حياً ومحوراً جوهرياً في الديوان. وبالطبع لم يستسغ زكي نجيب محمود العقيدة، وراح يقطعها إلى لوحات خمس، ويحاكمها محاكمة عقلية جافة، على رغم أنه يقرر في البداية عدم قدرته على تجاوز الكتابة عن الديوان فيقول: «كنت بإزاء حالة لا هي قد بلغت حد الجودة الذي عنده تكمم الأفواه الناقدة، ولا هي قد نزلت إلى ضعف يدعو إلى الترك والإهمال، ولكنها حالة وسطى، فيها القدرة الكامنة التي كانت لتلقى الإعجاب لو وجدت سبيلها القومية». ثم في النهاية يندب حظ الشاعر: «واخسارتاه! واخسارة هذه الطاقة الشعرية أن تنسكب كما ينسكب السائل على الأرض فينداح». واكتفي بهذه الإشارات التي استقبل بها الديوان الذي لم يزل محل نظر وقراءة ودراسة نقدية، وقد كتبت عنه أقلام نقدية كثيرة، وشكّل إحدى الركائز الأصيلة والأساسية في الشعر الحديث، وترك بصماته في تجارب أجيال تالية. وظل حجازي ينسج على منواله دواوينه التالية. لا يقدس حجازي صيغة نهائية للقصيدة، فهو دائم التبديل والتحويل والحذف، ويصاب المرء بدهشة عندما يطالع قصائده المنشورة في مجلة هنا وأخرى هناك ويقارن بينها وبين المنشور في الديوان بعد ذلك. ونجد أن حجازي أجرى تعديلات شبه جوهرية، إما لأسباب سياسية مثلما حدث في قصيدة «بغداد والموت»، التي نشرها في مجلة «الآداب» 1958، مشيداً بعبدالكريم قاسم. فعندما وقعت الخلاقات المعروفة، حذف حجازي أي ذكر لقاسم. لكن الحذف القاسي الذي مارسه حجازي على قصيدة «الطريق إلى أسيرة» لا يمكن فهمه، فهو حذف تقريباً ما يقارب المنشور منها، على رغم أن المحذوف لا يشكل أدنى عيوب فنية. وأظن أن الناشر هو الذي كان يمارس هذا الحذف، والقصيدة منشورة في مجلة «الرسالة الجديدة» في نيسان (أبريل) 1957. وفي هذه الفترة كانت قصائد لحجازي منشورة هنا وهناك، لم تضم الى الديوان، على رغم اتساقاتها الفنية والفكرية مع التجربة ككل، وعدم ضمها يطرح سؤالاً. وعسى حجازي ينشرها مرة أخرى بعد هذه السنوات الخمسين. وعلى مدى هذه السنوات الخمسين أدلى حجازي بشهادات كثيرة حول تجربته، وأظن أنها تصلح لدراسة مستقلة، وكيف رأى الشاعر نفسه، وكيف واجه العواصف الكثيرة التي تستطيع أن تقلل من مشاركته الواسعة في تأسيس قصيدة حديثة، ومناخ شعري مختلف، مع أن حجازي ذاته تقلب أكثر من مرة بحسب ظروف سياسية وفكرية وربما شعرية كثيرة.