تحمل رواية واسيني الأعرج الجديدة عنوان رئيساً هو «أنثى السراب» صدرت عن مجلة «دبي الثقافية»، يعلو العنوان الفرعي «في شهوة الحبر وفتنة الورق». وللرواية عنوان ثالث لا يظهر على غلافها، بل في صفحة العنوان الداخلية، وهو «سكريبتوريوم». ومن الهامش الشارح للكلمة إلى ما خصّها من إشارات في المتن، يتبيّن أن المعنيّ هو كهف منزل راوية الرواية «ليلى». وكما يتعدد عنوان الرواية تتعدد عتباتها. وقد خصّ الكاتب بالعتبة الأولى ابنته ريما، وتضمنت نظرته إلى روايته هذه: «مجرد لحظة ألم من امرأة ورقية معلقة في شجرة الجنة، تريد أن تنزل إلى هذه الأرض لاستعادة صراخها ولحمها وحواسها الضائعة من سطوة اللغة ومن سطوة الكاتب نفسه». وتتكرر هذه العبارات على لسان ليلى في مستهل الرواية تحت عنوان «نداء أخير». ترسله للكاتب. وقبل ذلك كان الكاتب كتب لليلى الرسالة الأخيرة غير المؤرخة بعنوان «امرأة تشبه الحياة قليلاً» لترتسم بداية الرواية من نهايتها، أي بعدما أنجزت ليلى كتابها (السري) المتضمن ما تبادلته مع الكاتب من رسائل خلال ربع قرن، هو عمر عشقهما المتواصل قبل أن تتحول إلى قاتلة، فيلتبس الأمر بين السيرة الذاتية والسيرة النصية، كما سيتّبين. الرواية إذاً هي رواية رسائل، تفصل بينها فقرات سردية تتولاها ليلى لتضيء رسالة، أو تضيف ما يخص سيرتها هي، أو ما يخص سيرة الكاتب، أو ما يخص سيرة الرواية نفسها. إنها الرواية «النزيف» بعبارة ليلى. وهي «مغامرة مجنونة يتقاسمها كاتب من لحم ودم مع امرأة من ورق وحبر» بعبارة واسيني الأعرج. لكن ليلى تجأر: «لست امرأة من ورق، ولكنني حقيقة واسيني المرة التي يحاول أن يتفاداها» فما الأمر؟ بعد ربع قرن من الصمت والخوف والأقنعة تقرر ليلى أن تقتل مريم التي سكنت روايات واسيني الأعرج كما هو معلوم. ذلك أن الكاتب كما تشرح ليلى سرق منها اسمها الحقيقي، وطوّح بها في الفراغ المميت، واشتق لها اسماً «أكل كل شيء في داخلي، وسرق مني هويتي، وحتى ألبستي». إنه اسم مريم الذي استقاه الكاتب من طفولته الهاربة. وتلك هي ليلى تعلن: «ها أنا ذي مريم كما شاء لي واسيني الأعرج في رواياته». فقد محا اسم ليلى من الوجود، وأوهم الجميع باسم مريم، لكأنها كائن بشري، وهي ليست أكثر من امرأة ورقية جاءت على أنقاض امرأة حقيقية». بين هذا الذي أثبت اسمه على غلاف رواية «أنثى السراب» ككاتب لها، أي بين واسيني الأعرج، وهذه الشخصية الروائية التي يؤكد الأعرج نفسه إعلانها بأنها من كتب وألفّ «أنثى السراب»، بين هذين القطبين تقوم اللعبة الروائية المتداولة: العشق أو التمرد أو.... بين الكاتب وشخصياته. وليلى نفسها تذكّر بهذه اللعبة إذ تعلن أنها لا تنوي التمرد على واسيني الأعرج، كما تفعل الشخصيات عندما تصاب بالخيبة. وقد قرأت ليلى اللعبة عند آخرين منهم بول أوستر الأميركي الذي جعل الشخصيات تخرج من الكتب وتغادر كاتبها. وبحسبي أن أشير هنا إلى رواية حنا مينه «النجوم تحاكم القمر». تقدح شرارة تأليف ليلى لكتابها السري، أي لرواية «أنثى السراب»، عندما يبلغها نبأ الأزمة القلبية التي تعرض لها واسيني الأعرج في ربيع 2008، ونزل بسببها في مستشفى كوشان بول سان - فانسون الباريسي. وقد بدا مشروع ليلى نزالاً مع الموت الذي هدد الكاتب. والأمر يتعلق بالرسائل التي تبادلتها مع واسيني، ليس فقط خلال ربع قرن مضى، بل خلال ثلاثين سنة مضت، وكانت خلالها امرأة الظل والصمت والورق، كما تقول. قررت ليلى نشر الرسائل بلا نقصان، وليس كما فعل واسيني الأعرج في رواياته «بعدما مارستَ عليها سلطان الرقابة وذوبتها في فعل الكتابة». فالرسائل، بوصف ليلى، كانت فراش العاشقين السري الوحيد، وحياتهما المخبوءة، ودليلهما في ظلمة مسالك الدنيا القاسية. تسرد ليلى خارج حصة الرسائل من الرواية بداية علاقتها بالكاتب، ثم زواجها، وزواجه، وسرهما الكبير: حملها منه وإنجابها مايا. وعبر ذلك تضيء بعض روايات واسيني الأعرج الأخرى. فقد تأكد لها مع الزمن أن سيرته الأولى والأخيرة، والأكثر شفافية، موجودة في كتاباته «حتى لو تعنّت ولم يعترف». وهكذا تسوق ليلى، في متن الرواية وفي هوامشها، كيف أن الأعرج أعاد صوغ نص قديم له فكانت رواية «طوق الياسمين» الذاتية جداً، والتي بدل فيها اسم مايا باسم سارة، ونزع أجزاء من رسالة تنشرها بتمامها في «أنثى السراب». يعزز الكاتب نفسه السيرة في حصته من الرسائل. بل إن واحدة منها بلغت اثنتين وثلاثين صفحة، وتعود إلى عام 1988، لا تعدو أن تكون حيلة سردية من أجل السيرة الذاتية. ومثلها رسالته من الدوحة في ربيع 2006 التي بلغت ثلاثين صفحة. وسرد الكاتب ما يتعلق بأزمته القلبية في رسالة مؤرخة في 31 / 3 / 2008، وذكر أن «بعض الموانع» زالت من ذاكرته، بعد الأزمة، وأن رغبة محمومة انتابته «لكتابة نفسي» قبل فوات الأوان. كأن جمال الغيطاني هو من يكتب في «مقاربة الأبد»، أو كأن وليد إخلاصي هو من يكتب في «سمعت صوتاً هاتفاً» إثر تعرض كل منهما لأزمة قلبية. وفي ما يتصل بإشارة ليلى إلى لعبة الرسائل في روايات واسيني الأعرج، يذكر هو أن الرسائل كانت لعبته المفضلة في الكتابة، كلما كتب عن الحب «على رغم كونها وسيلة غير مأمونة المسالك». والكاتب إذاً، وبمقتضى الجملة الأخيرة، يبحث عن التقية التي أخذتها عليه ليلى، غير مرة. على أن ليلى التي لا تفتأ تجلجل بأنها ستكشف المستور غير عابئة بالتقية، تسمّي «سفيان» ذلك الناشر العراقي المقيم في ألمانيا، الذي نشر بعض روايات الأعرج، ثم اختلفا، ثم اتفقا على أن يصدر الناشر الأعمال الكاملة للكاتب، كما تسرد ليلى وهي تتفق مع «سفيان» على نشر كتابها الفضائحي الموعود «أنثى السراب». أليس الحرف الأول من اسم هذا الناشر: خالد المعالي؟ تعلن ليلى أن ما يؤثث حضورها الآن، أي لدن إنجاز الرواية، هو الموسيقى والذاكرة المتقدة. وليلى عازفة الكمان، وابنة سي ناصر عازف الكمان. وفي حضرة الموسيقى، ولماماً: في حضرة الفن التشكيلي، تزدهي الرواية بالخبرة العميقة لواسيني الأعرج في الفنون، كما تزدهي بخبرته العميقة في أرجاء العالم، حيث تتطاير الرسائل بينه وبين ليلى - أو ليلي كما كان والدها يؤثر أن يناديها - كما تتطاير حياتهما، من الجزائر ووهران إلى طليطلة أو باريس أو القدس أو بيروت أو الدوحة أو نيويورك أو.... وإذا كان هذا وسواه من فيض الذاكرة الذي انتظم في الرسائل وفي ما يفصلها من الفقرات السردية التي تتولاها ليلى، فالرواية تضمنت رسالة من الكاتب إلى صديقه الراحل عزيز، تجلو من سيرته قدراً آخر. وتضمنت رسالة من ليلى إلى الكاتب ما كانت جريدة «الخبر»الجزائرية نشرته من رسالة طالبة من طالبات الكاتب، هزّها مرضه. حتى إذا استوفت الذاكرة فيضها واتقادها، واستوفت الرواية لعبة الرسائل، ارتدت نهايتها على بدايتها، فأرسلت ليلى بالبريد «أنثى السراب» إلى الأعرج، وأشهرت المسدس الذي يتواتر حضوره كلما اقتربت الرواية من النهاية. وفي الآن نفسه قرأت ليلى التقرير الطبي الذي يؤكد وجود آثار خلايا سرطانية في رحمها، فيتضاعف التباس النهاية بتضاعف دلالاتها: أهو الموت بالسرطان أم بالقتل؟ أهو الجنون أم الوهم؟ أهي ليلى أم مريم التي لا تقتلها خمس رصاصات، فتلاحقها القاتلة التي يلاحقها الشرطي؟ وهنا يترجّع صدى كاتب ياسين الذي قضى باللوكيميا عام 1989.