تقول شهلا العجيلي في كتابها الجديد «مرآة الغريبة»: إنّ كتابتنا نحن النساء، وهذا ما أهجسُ به، وكنتُه في «عين الهر»، كتابة مختلفة وليست مضادة، لأننا مختلفات، تماماً، كما أنكم مختلفون، أما كتابتي فمختلفة عن كتابتهنّ لأنني أيضاً مختلفة عنهنّ بقدرِ ما هنّ مختلفات عنّي... وهذا بالضبط ما جال في خاطري وأنا أنتهي من قراءة روايتها الأولى «عين الهر»، ولكن بصيغة أكثر تعميماً وإيجازاً، ربما لأني كنت آنذاك أخاطب نفسي، قلتُ لنفسي حين انتهيت من قراءة «عين الهر»: هذه رواية مختلفة، لم ألتفت آنذاك إلى جنس كاتب الرواية: أهو ذكر أم أنثى، الذي لفت انتباهي هو أنّ هذه الرواية مختلفة. وها أنذا أعود اليوم بعد صدور الطبعة الثانية من «عين الهر» في سلسلة آفاق عربيّة في القاهرة، لأتساءل عن سبب إحساسي باختلاف هذه الرواية عن غيرها من إبداعات روائيينا الرجال والنساء. أنطلق من كون مبدعتها امرأة، ومن ثقافة المجتمع الذي أعيش فيه، والذي لا يرى في المرأة غير مخلوق وُجِد من أجل الرجل يمارس عليها سلطانه؛ يحبها ويكرهها بمزاجه، يحترمها ويحتقرها بمزاجه، يغتصبها أو يتزوجها بمزاجه، يقرّ لها ببعض حقوق الإنسان، أو يحرمها منها بمزاجه، يراها ملاكاً، أو يراها شيطاناً بمزاجه أيضاً. أما المرأة نفسها فهي في هذا المجتمع إمّا مستنجدة تستجدي الإنصاف، والرحمة، والرفق بالقوارير، وإمّا جريئة تطالب بمنحها بعض الحقوق، أو تخترع وتناور للحصول عليها في إطار وصاية الرجل وهيمنته، وإما متمردة ترفض حتّى أنوثتها، لأنها ترى فيها القيد الذي يكبّلها. وقد عكست الرواية النسويّة السوريّة مراراً وتكراراً هذه النماذج من الرجال والنساء، مرسّخةً وعياً مشوّهاً للعلاقة بين المرأة والرجل، حتّى صار القارئ رجلاً كان أو امرأة، يعرف سلفاً أنه سيقرأ رواية عن علاقة الرجل بالمرأة، وقضايا المساواة بينهما، والعنف الجنسيّ، والاغتصاب، والعنوسة، والقهر، والظلم الأسرويّ، والحبّ والخيانة...إلخ، إذا كان كاتبها امرأة. غير أنّ كاتبة «عين الهر» كسرت أفق توقعي حين قدّمت نصّاً، وأكاد أقول بحثاً غنياً معرفيّاً بقدرِ ما هو غنيٌّ جماليّاً، رصدت فيه مختلف أوجه حياتنا المعاصرة، متنقّّلة برشاقة عجيبة، ودون أدنى تكلّف بين فضاءات متباعدة وشديدة التنوع، من الحارات الفقيرة حيث البؤس، إلى ورشات الصاغة حيثُ تصيغ الأيدي الماهرة جمال الأحجار الكريمة، ومن صالات بيع المجوهرات في (دبيّ) حيث الثراء الفاحش، والفاسدون من أصحاب النفوذ، إلى حلقات الذكر وجلسات الذاكرين الروحانيّة العرفانيّة كما عاشتها وتعيشها فئات من حملة الثقافة غير العالمة في أوطاننا، من الدوائر الحكوميّة في المدن الصغيرة، والمراكز الريفية، حيث يختلط الهواء بالغبار، والتخلّف بالفساد السياسيّ والاجتماعيّ، إلى فناء الجامع الكبير في حلب ساعة المساء حيث تنفذ هيبة المكان إلى نفوس روّاده فتملؤها نقاءً ورضاً ينسيانهم ما تركوه وراء أسوار هذا الصرح التاريخي العظيم. والكاتبة تفعل ذلك كلّه من دون أي صخب إيديولوجيّ، فلا اتّهامات، ولا إدانات، ولا تفجّع، ولا توجّع، ولا صراعات، ولا معارك بطولية، بل الحياة نفسها في سيرورتها الهادئة العميقة المتنوعة، الحياة التي تدفعني، أنا القارئ، للشعور بالدهشة حيناً وبالأسى حيناً آخر، بالتعاطف حيناً، وبالنفور حيناً آخر، بالإعجاب حيناً وبالاحتقار حيناً آخر، من خلال صورها التي تتدفّق في الرواية وفق ترتيب تخدعك بساطته فتظنّه عفويّاً، ولكنّه في الحقيقة، أبعد ما يكون عن العفوية. إنه نتاجُ وعي الكاتبة الحاد، وإرادتها الصلبة، ودرايتها الواسعة بفنّ القص، وانتقائها الصارم للأحداث والصور، ومكان وزمان عرضها في فضاء الرواية. لم تقحم الروائية نفسها في سرد مباشر لوقائع روايتها، بل تركت ذلك، وبوضوح، لراوٍ آخر هو امرأة مثقّفة أزعم أنها كانت تتماهى أحياناً مع الروائية، وتنأى عنها في أحيان أخرى، وهي تعيش حياتها التي توحي إيحاءً شديداً بقربها من السيرة الذاتية للكاتبة . غير أنّ الراوي الأساسي في «عين الهر» هو «أيوبة» التي امتلأت حياتها بألوان الخيبة والنجاح، ولكنها ظلّت أبداً أمينة لمنطق الحياة، ومنطق النّص كما أرادته كاتبته، دون أن يعني ذلك إقحام الروائية أيّ حدث نشازٍ يتعارض والأسس التي بنيت عليها هذه الشخصيّة.ثمّة في الرواية شخصيّة نسائية ثالثة، لم تقل ولم تفعل أيّ شيء محدد في الرواية (أوديت)، ولكنّنا نعرف من سياق الأحداث أنها كانت تناصر المظلومات من نساء الحي، وأنها عاشت مغامرة حبّ فاشلة انتهت بهجرة الحبيب لها. ثلاث شخصيات نسائية شكّلت حيواتهنّ النسيج الأساس في الرواية. ومن اللافت للنظر أنّ كلاً منهنّ امتلكت قدرات ومهارات مكّنتها من مواصلة الحياة، من دون البحث عن وصاية الرجل وحمايته، ومن دون السقوط في حمأة العهر حين فقدت من تحب. لقد وحّدت هذه السمة بين النساء الثلاث على اختلاف مشاربهنّ. لقد استخدمت الكاتبة في روايتها تقنيات الكتابة الروائية الحديثة كلّها تقريباً: تعدد الأصوات، تنوّع الأمكنة، تداخل الأزمنة، الخطف خلفاً، الاستشراف، الحوار، الوصف، الترميز...إلخ. لكنّ أبرز ما يلفت نظر المتلقي ليس الاستخدام الناجح لهذه التقنيات، بل موهبة القص التي يحقّ لي أن أظنها وراثية عند الدكتورة شهلا العجيلي فعمّها هو الروائي الكبير الراحل عبدالسلام العجيلي. غير أني أشكّ في صحّة هذا الظن بل أراه ساذجاً، لأنني أعتقد كما تعتقد شهلا العجيلي أنّ الكتابة الروائية كتابة واعية، وبحثٌ معرفيّ، لا ينفصل فيه الذاتي عن الموضوعي، والجمالي عن المعرفي، وهذا ما يجعلني أعتقد أنّ رواية «عين الهر»، كما تقول الكاتبة نفسها، «نتاج «قرار ومثابرة ووعي وإرادة ومخطط...».