في كتابه المسمى «الضمير» (conscience) الصادر عن مشروع «مقدمة قصيرة جداً» (very short introduction) الذي تتعهده جامعة كامبردج العريقة، يحاول بول ستروم تقديم ملخص مبدئي عن المصطلح والإشكالات المتعلقة به، وعلى رغم الجهد الواضح والتتبع الحثيث للمعلومة الذي قام به الكاتب، إلا أن هذه المقدمة يعوزها الاتساق النظري من جهة، ومن جهة أخرى لم توفق في مناقشة أهم قضية وهي مفهوم المصطلح. يقرر المؤلف في الصفحات الأولى أن الضمير هو مُنتجٌ من منتجات الحضارة الغربية! ويُردِف أن أهل الحضارة الغربية لا يزالون رُعاته حتى هذا الوقت، ويضع مباشرةً جملة اعتراضية قائلاً فيها: «- إلى حدٍ ما -»، ويُراد لنا من هذه الجملة الاعتراضية أن نفهم أن المؤلف يتغيّا الدقةَ في الطرح من حيث إن ثمةَ مندوحةً بخلاف التقرير الذي تتضمنه مقولة: أنهم - أي أهل الغرب - هم رعاةُ الضمير، وأنا لا أدري إن كانت الدقة ما زالت حية تُرزق بعد قوله أن الضمير مُنتج من منتجات الحضارة الغربية! إن توصيف الضمير على أنه منتج لحضارة محدّدة يتناقض وتوصيفه بأنه أصلٌ أصيلٌ في طبيعة الإنسان، ذَلِكَ أنَّ المنتج يفترض بالضرورة الصُنع والخلق، في حين أن الطبيعة تُثبتُ حضورها في شكل ذاتي تلقائي، وما أعظم البونُ بين الأمرين. إن مناقشة سؤال الماهية يُحتم علينا أولاً بحث الحالات التي يُستحضر فيها مُصطلح الضمير، حتى نتحصَّل على مادة أوليةٍ، ثم نحاول تمييز هذه النتيجة الأولية عمَّا يشتبهُ بها، أي مناقشة «ما ليس هو» نزولاً بالبحث إلى أقصى درجات الدقّة حتى تستبين المعالم الأساسية لموضوع البحث، فَنَخلُص بتصور واضحٍ جامعٍ مانعٍ بقدر الإمكان. دائماً ما يُردد الإنسان العبارات الآتية التي يَردُ فيها ذكرُ الضمير: «ضميري لا يسمحُ لي»، «يؤنبني ضميري»، «ألا توجدُ لديك ذرة ضمير؟!». وقبل الشروع في تحليل هذه الجملِ الثلاثِ، أجِدُني مضطراً للاعتراف بفخامةِ مصطلح «الضمير»، ذلك أن هذه الاستخدامات كُلها تلتبسُ روحَ الردعِ والزجرِ والوخزِ والتوجيهِ والإرشادِ، ولئن أردنا اختزال هذه الخصائص في كلمةٍ قُلْنَا أٓنَّهُ - أي الضمير - «سُلطة»، من حيث إنه يفترضُ أن ثمة حُدُوداً يفرضها الضميرُ على صاحبهِ، فَيَخِزهُ إن هو فكّر في تجاوزها، ويُقرِّعهُ إن هو تجاوزها، ويُناصحُ الناس به بعضهم بعضاً. وبذلك، يكون للضمير أثر مباشر على السلوك المادي لصاحبهِ. ولئن كانت هذه هي وظيفة الضمير، فما الذي يدفعه إلى فعل ذلك؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تدفعنا إلى مناقشة العلاقة بين الفاعِل النفسي الذي سميناهُ الضمير بالمرجعيات الخارجية الموضوعية الحاكمة السلوك الإنساني «أخلاقية - دينية - أعراف اجتماعية»، ذلك أن الإنسان محكوم أبداً - في الوعي واللاوعي، مختاراً أو مجبراً - بقواعد أخلاقية أو دينية أو اجتماعية، تتضمن هذه القواعد الموضوعية محددات لسلوك الإنسان، وتوقعات لما ينبغي أن يكون عليه سلوكه، فما علاقة الضمير بهذا القواعد؟ هل هو مجرد باعث - حاث على الالتزام بهذه القواعد؟ وما هو دور العقل الواعي في هذه المعادلة التي تجمع الضمير من جهة والقواعد الموضوعية من جهة أُخرى؟! ينقُلُ بول ستروم في هذا الصدد عن القديس أوغسطين قوله «أن الضمير يمتلك معرفة وسلطة خاصتين من نوع أكثر شمولاً، إنه يعلم كل ما يعلمه صاحبه»، إن المعرفة التي يتحدث عنها أغسطين ليست إلا تلك القواعد الموضوعية التي تشرَّبتها شخصية الفرد، وأصبحت حاكماً فاعلاً لسلوكه، تحدد له ما يتوقع منه، وحول هذه النقطة تحديداً تكون فاعلية الضّمير، والتي يصورها بول تيريك في كتابه المسمى «ما وراء الأخلاقيات» بأنها بمثابة كاشف للانفصام بين ما هو عليه وما يجب أن يكون عليه. بذلك، فإن الضمير يوخز ويؤنب صاحبه كيما يحفظ انسجامه وتوافقه مع القواعد الموضوعية الحاكمة. إن فهمنا لفكرة المراقبة التي يتعهدها الضمير تطورت مع كل من آدم سميث في كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» وإيمانويل كانط في كتابه «ميتافيزيقيا الأخلاق»، ذلك أنَّهما طرحا فكرة «المُشاهد الآخر العادل الموضوعي»، بمعنى أن آلية مراقبة بين «ما هو عليه وما يجب أن يكون» كأنما تتم من جانب أي مشاهد عادل آخر موضوعي، والمهم في هذا الرأي هو الملاحظة التي يفترضها من استقلالية الضمير، لكأنَّما هو كيان آخر يستوطن عمق الإنسان، ولئن صحّت الملاحظة، فالضمير هو نقيض الهوى، حتى وإن جنح الفرد إلى تبرير مخالفته القواعد التي تحكمه بحيث يكسبها الشرعيّة، ومهما برع في ذلك، يبقى الضمير يحدّق نحو صاحبه في صمت مطبق، بنظرات المقت والشَّزر، السُخط والاحتقار. وماذا عن العقل الواعي؟ أي دور له في المعادلة التي تجمع «الضمير» وتلك «القواعد الموضوعية الحاكمة»؟ في هذا الصدد يُورد وليام بيركنز في كتابه «خطاب الضمير» بأن العقل «يفكر في فكرة، ويتخطّى الضمير العقل ويعلم ما يفكر فيه، ومن طريق هذا التصرّف الثاني قد يشهد الضمير حتى على أفكاره»، العقل الواعي ثانوي في هذه المعادلة، ذلك أن الضمير يوخز ويؤنب، فيعرف صاحبه ما المطلوب منه، ولربما فكر الإنسان فيما حدث في شكل واع لاحقاً، إلا أن العملية كاملة تتم في معزل عن الحضور الواعي للعقل. فالعملية يغلب عليها الطابع النفسي. إلا أن الضمير يتميز كذلك عن ذلك الشعور أو الإلهام المفاجئ الذي يخوِّف الفرد من الإقدام على فعل معين أو العكس، ذلك أن الغالب في هذا الشعور أنه لا يستند على مرجعية خارجية أو قواعد موضوعية، هو شعور غير معلول، هو لا يدور في فلك الصح والخطأ، ما تريد أن تفعله وما ينبغي لك أن تفعله، هو فقط شعور غريب، يدخل القلق والخوف في نفس الإنسان حيال القيام بسلوك معين أو الامتناع عنه، وهذا الأمر قد يجد تفسيره في علم النفس وقواعد اللاشعور، إلا أنه ليس هو الضمير الذي نحن بصدده. إن القول بأن الضمير أصل أصيل في الإنسان يوفر إطاراً خاصاً لمناقشة موضوع ميلاد الضمير ووفاته. هل للأطفال ضمير؟ يبدو سؤالاً قاسياً، ذلك أن فقدان الضمير دائماً ما يكون صنو الدنو والخسَّة. إن المقدمة الواردة في هذه الفقرة تستلزم بالضرورة الإجابة بالإيجاب عن السؤال المطروح، فحتى الأطفال يوجد لديهم ذلك الصوت المراقب والساهر بيقظة على ضمان مسألة أن سلوكهم لا يخرج من إطار السلوك المتوقع منهم، على أن حضور هذه الفاعلية قليلة نسبياً مقارنة بالبالغين، ذلك أن القواعد التي تكبل سلوك الأخيرين أكثر اتساعاً وغزارة، أضف إلى ذلك وطأة الإحساس بالمسؤولية الذي يسكنُ البالغين. وماذا عن موت الضمير؟! إنه لا يموت، ذلك أن الإنسان لا يد له على ذلك الشعور الواخز، فهو أصل في طبيعته، إلا أن الفرد له أن يتخلَّص من تلك القواعد الموضوعية الحاكمة فلا يكون للضمير موضوع للرقابة، فلو أن مُسلماً احتسى خمراً بخلاف ما تُمليه عليه قواعد دينه، لك حينذاك أن تتخيل سياط الضمير تلذع صاحبها لذعاً، إلا أننا لو افترضنا أن هذا الشخص نبذ الإسلام وغدا مُلحداً على سبيل المثل، ولم يُصبح لديه أي إشكال في شرب الخمر، فلن تكون هناك ثمة فاعليّة للضمير في هذا الشأن في ظل هذه الظروف. على أن تحرر الإنسان من كُل القيود أمر أشبه بالمحال، ذلك أن القواعد التي تحكم السلوك متنوعة «دينيةً - أخلاقيةً - اجتماعية»، وهي مُرتبطة بالفرد بصورة معقدة ومتشعّبة في اللاوعي بحيث يصبح من الصعوبة بمكان تجاوزها جميعها، ومن ناحية أخرى، فإن الضمير من حيث المبدأ لا يرتبط بالصواب والخطأ في صورته الموضوعية العامة المتعارف عليها في المجتمع، وإنما هو أكثر ارتباطاً بالفردية، فيكون الضمير مراقباً لهذه القواعد التي استسقاها الفردُ وآمن بها، وبهذا المعنى تحديداً تجدُ الضمير حتى عند أكثر المُجرمين خسةً وأشدّهم وضاعة.