تعددت الآراء حول قضية الانفتاح الفكري التي أثارتها “الرسالة” خلال الأسبوع الماضي، بين من رأى أن هذا الانفتاح بات ضرورة حتمية لا بد منها، ومن قال إن الانفتاح يحكم الضعفاء ويحكمه العقلاء، ومن رأى أهميته كأداة للفهم الفكري. في هذه الحلقة يشير الأستاذ وائل الحارثي إلى ضرورة أن يكون هذا الانفتاح منضبطًا بضوابط الشريعة، مؤكدًا أن الواقع الحالي يثبت أن الانفتاح تعدى مرحلة الشعارات المرفوعة إلى مرحلة التطبيق الفعلي. من النوازل المتجددة الدائرة في الوعي التداولي للمجتمعات المحافظة؛ إشكالية الانفتاح الفكري والمعرفي والثقافي على الفضاء الآخر بكل أطيافه وتجلياته ومستوياته. وإذا تجاوزنا جدليّة المصطلح والإرث التاريخي المُحمّل به، والمقترن بظلامية الكنيسة والدين المسيحي المحرّف فإن من الأقرب وصف الانفتاح الفكري بأنه: حالة ثقافية تقوم على معرفة ما عند الآخر من علم وفكر وتجربة، بقصد التفاعل معها مناقشةً أو استفادةً أو تطويرًا وترشيدًا. ومن المقدمات المركزية التي تضبط مسار الخلاف في بحث هذا النمط من الموضوعات النازلة: مراعاة أن الشريعة أكدت على عدد من المقاصد التي يرتكز عليها بناء هوية المجتمع المسلم، والتي يأتي في مقدمتها مقصد حفظ الدين. ويلزم من ذلك أن الحديث عن موضوع الانفتاح الفكري على مختلف الاجتهادات الشرعية فيه لا يجوز أن يتجاوز بحال إلى محاولة الإخلال به، لأن أيّ انفتاح يقود في مآله إلى الإخلال بمقصد حفظ الدين فإن الشريعة لا تجيزه، ولكن شريطة أن يتحقق فيه هذا الوصف، لا أن يتوهم ويُرمى به للمحاذرة والمناورة الجدلية! ومن هذا المنطلق ينبغي أن يُدار البحث في حالة من التوازن والثقة المتبادلة، بعيدًا عن حركات المزايدة من طرف على حساب طرف عندما تتباين الرؤى الشرعية حول هذا الموضوع. إذا تم الانطلاق من هذا المقصد الشرعي فربما يقودنا هذا إلى نوع من الضبط المعياري لمجال الانفتاح الذي يلزم فيه التفريق بين الانفتاح الفكري على مستوى الخاصة والنخبة الذين اجتمعت فيهم الشروط العلمية الموضوعية، والانفتاح المجتمعي الذي يتيح جميع الأفكار أمام عامة الناس ممن لا يملك القدرة الكافية على التمييز المعرفي بين الحق الذي يؤخذ والباطل الذي يترك. فهنا لا بد من القول برجحان الممانعة الشرعية الواعية له حتى مع عدم قدرتنا على رفعه من كل وجه، لأن هذا الانفتاح الأخير قد يقود إلى الإخلال بالمقصد الشرعي في حفظ الدين. كما يلزم التفريق بين موقف الاطلاع والمعرفة وموقف القبول، فلا يلزم من القول بالانفتاح: القول بالقبول المطلق للجهة أو الرأي المنفتح عليه. وهذا الأساس يرفع اللّبس أو الحساسية المتوهمة التي تفترض التلازم بين الانفتاح والقبول! وعملية الانفتاح المعرفي تشمل الخطوات التالية: - التصوّر الصحيح عن الآخر بالتعرف عليه عن طريق مصادره الأصلية التي تعبّر عن رأيه ووجهة نظره بدون وسيط. - التجرّد والموضوعية في التلقي عن الآخر لفهم مراده كما يريده هو. - نقد وتمييز ما عند الآخر بحسب مرجعيات الناظر. والتجربة المعاصرة في حركة الانفتاح المعرفي/ الفكري فهي تجربة تختلف عن التجارب القديمة من جهة عدم خضوعها للإرادة الذاتية بل هي مفروضة واقعًا، وغير خاضعة للرقابة غالبًا. ومن جهة أخرى، فهي حركة كثيفة مختلطة، تتجاوز محاولات الحصر والتدارك، ويختلط فيها الجيد بالردئ لدرجة الإبهام أحيانًا، مما يتطلب حالات متقدمة من التقصي والفحص. ويمكن استعراض أبرز الفقرات التي تستحق النظر والقراءة في النقاط التالية: التكييف الفقهي التكييف الفقهي لدراسة هذه المسألة يدرجها تحت صنف المسائل الاجتهادية، التي تخضع لفقه الموازنات المستند لبيان المصالح والمفاسد، والذي يتفاوت بحسب نظر المجتهدين. ولعل من المتفق عليه أن “الانفتاح الفكري” يتضمن جملة من المصالح والمفاسد، والتي تتباين بحسب أفراد وأنواع الأدوات والأفكار الوافدة، كما أن جملة منها لا يمكن الجزم بترجيح أو خلوص مفسدتها. وعليه؛ فليس من الدقيق إطلاق حكم عام في مسألة الانفتاح الفكري لعدم حتمية المفسدة أو لضعف درجتها في أحيان كثيرة مع توفّر المصلحة الغالبة في أحيان أخرى. ومن جهة تأصيلية؛ فإنّا قد نقف على أصول شرعية تدعم فكرة “الانفتاح المعرفي” كما في مفهوم الحديث الصحيح: “حدّثوا عن بني اسرائيل ولا حرج” [أخرجه البخاري]. ويلاحظ أن التحديث درجةٌ أعلى من مجرد الاطلاع! وقد أذن به الشارع صلى الله عليه وسلم، وهذا كله مع مظنّة المفسدة الموجودة في بعض كلام بني إسرائيل، إلا أن هذه المفسدة هي من قبيل نظرية “اليسير المُغتفر” المعتمدة في الفقه الإسلامي في تكييف العديد من مسائل المعاملات. ويلحق بهذا الباب؛ ما يعبّر به بعض الفقهاء “بما جرى عليه العمل” عند عامة أهل العلم: من الاطلاع والاستفادة من كتب الموصوفين بالبدعة ككتب المعتزلة والأشاعرة، بل حتى من وُصف بالزندقة ونحوها.. ككتب بعض الأدباء ككتب الأصفهاني وأبي حيان التوحيدي، وكتب الفلاسفة الملّيّة كابن سينا وابن رشد... كما نجد تداولًا ظاهرًا لبعض الموسوعات الأدبية التي تضمنت جملة من الأخبار والأشعار، بعضها مذموم شرعًا ومن جنس ما يُكتب في كتب القصة والرواية المعاصرة. كل ذلك يجري في جوّ من الإقرار العام بين أهل العلم مع التفاوت أحيانًا في نقد بعض الكتب أو المؤلفين. قيمة التجربة الإنسانية من المقدمات المؤثرة في تفهّم قيمة الانفتاح الفكري: الإقرار بقيمة التجربة الإنسانية وما قدمته، وما تستطيع أن تقدمه من خير وإصلاح للبشرية؛ بفعل العقل المبدع الذي ركّبه الباري جلّ وعلا وكرّم به بني آدم وفضلهم على كثير من خلقه تفضيلًا. فممارسة هذا العقل وتراكماته المعرفية عبر مختلف العصور لا يمكن أن تتمحض فيها الشرور والمفاسد، وإلا لما امتنّ الله عزّ وجل بما هو مجلبة للشر والفساد فقط. والتجربة الإنسانية تشمل مختلف أنواع المنتج الإنساني؛ الفكري والاجتماعي والاقتصادي والصناعي والتقني وغيره. والإقرار بقيمته لا يلزم منه الحكم بصوابه مطلقًا بل هو متعرّض لما هو سنّة كونية مكتوبة على العقل البشري- المستقل عن نور الوحي- من الوقوع في الخطأ والزلل مع إصابة الحق في أحيان كثيرة، ويشهد لذلك المقولة السائرة في تقرير “موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول”. فالعقل ينتج ويثبت حتى ما يتعلق بالجانب الفكري، بل الغامض منه أحيانًا كمباحث الإلهيّات، والتي يقع فيها الغلط أكثر من غيرها. هذه المقدمة تفيد في إثبات الحاجة للجانب الفكري أيضًا وليس فقط الجانب التقني والفني الذي تقدمه الحضارة الغربية. لكن هذه الحاجة لا تعني الافتقار إليها أو احتمال الضلال من دونها، بل لا شك أن قضايا الدين والشريعة نزلت مكتملة مستغنية. لكن الموقف الذي تجدر مراعاة قيمته هي المشاركة الواسعة التي قدمتها الحضارات المختلفة في مجال البحوث والدراسات الإنسانية سواء فيما يتعلق بالفلسفة أو العلوم أو مناهج البحث وقضايا التربية والتعليم واللغويات ونحوها من الدراسات الأدبية، والتي تشمل خليطًا من الصواب والخطأ، كما تتقبل كثيرًا النقد والتفكيك وإعادة الصياغة والتدوير وفق المراجع الحاضنة لها. وعليه، فمن الجدير إعادة النظر في الموقف من الدراسات الفكرية التي يقدمها الآخر الداخلي أو الخارجي، حتى لو قدمها من نفترض فيه مناصبة العداء للمنهج الحق كالمستشرقين الذي سبقوا في دراساتهم الاستشراقية إلى دراسة جوانب أغفلها المجال العلمي الإسلامي في وقتهم كالدراسات التاريخية واللغوية والتراثية على وجه العموم. ولا يُفترض من هذا التقرير هو الحكم بصواب نتاجهم بل تقدير جهودهم والتي تضمنت صوابًا ليس بالقليل. لذا ليس من العلمي تنزيل مثل هذه الدراسات الاستشراقية منزلة رواية الكافر المردودة في منهج الرواية عند المسلمين في علم الحديث- كما يفترض ذلك بعض الباحثين- لأن محتويات تلك الأبحاث لا تخلُ من حالين: إما نقولات تُعزى لأصحابها من كتب المسلمين، أو تحليلات ووجهات نظر تَقْرأ تلك النقولات وتضعها في سياق تاريخي مناسب لها. وكلا الحالين لا يتجه إليه الحكم بالرد لأنه رواية كافر! بل المنهج هنا يفرض طلب الحجة والبراهين الشرعية والعقلية والتحاكم إليها. كما أن فَرَضية العداء والمؤامرة قد تكون قرينة معتبرة، لكنها ليست لازمة للدراسات الاستشراقية والغربية بعموم، ويشهد لذلك حديث “صدقك وهو كذوب”. وعادةً، ما يكون الالتزام المنهجي العلمي الموضوعي المفروض في تلك الدراسات مقللًا من نسبة طغيان وحضور الهوى والعداء الشخصي على فَرْض التشبّع النفسي به. ولتدعيم هذا الموقف يمكن استدعاء بعض المشاهد التاريخية للاعتبار بها، كالموقف من كتب الفِرَق الإسلامية كالمعتزلة والأشاعرة، والتي اختلط فيها الصواب بالخطأ والخير بالشر، بل كان في بعضها خيرٌ غالب ومصلحةٌ راجحة كالتي كُتبت في الدفاع عن النبوات والقرآن. حيث استفاد عدد من أئمة الدين والمحققين من كتب الموصوفين بالبدعة كما ذُكر من استفادة ابن تيمية من كتاب النوبختي الشيعي في نقد المنطق ومن كتابات ابن رشد المتفلسف في نقد الأشاعرة. كما لم يزل العلماء يتتابعون جيلًا بعد جيل - بما يشبه وصفه بالاجماع المتواتر- على الاستفادة من كتب الأشاعرة والمعتزلة في الفقه وأصول الفقه والحديث والتفسير واللغة والأدب - والتي تحوي كمًّا كبيرًا من جنس المواد المتداولة في عالم الروايات اليوم - ! وكل هذا نتيجة الانفتاح عليها، مع اختلاطها بشيء من المفسدة ووجود الخطأ والشر في أكثرها مختلطًا بالمنفعة، التي رجحّت كفةَ الانفتاح عليها واستخلاص المفيد منها. ولو طردنا القول بسد الذريعة ورفض الانفتاح لوجود المفسدة لفَات خير كثير وضاع علمٌ جمٌّ وافر!!! سؤال الانفتاح والواقع الانفتاح الفكري ضرورة واقعية! بل يكاد الزمن أن يتجاوز سؤال الانفتاح. والغرض من المطالبة بالطرح الواقعي في هذه المسألة هو من أجل تجاوز مرحلة الأسئلة المثيرة للجدل في مواطن المشكلة إلى البحث عن الطريق الأنسب للتعامل مع الواقعة التي تجاوزت منذ زمن كثيرًا من الأسئلة التي يُعاد تكرارها دون الحسم بجواب مُقنع! فالواقع يشير لوجود مجموعة من المؤشرات التي تثبت أن الانفتاح تحوّل من مرحلة السؤال والتنظير إلى اختراق الواقع: منها: الإقبال اللافت والحصري- تقريبًا - على الكتاب الفكري في المشهد الثقافي السعودي، خاصةً ذاك الذي يعتمد المنهج النقدي الأكثر إغراء وطلبًا للتغيير! ومنها: حركة التفاعلات الثقافية على شبكة الانترنت، حيث نجد حراكًا فكريًا لدرجة الصّخب في المنتديات الإسلامية وغير الإسلامية، والتي تتبنّى مسار التعددية على أوسع نطاق، وتطرح فيها الآراء من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار إلى درجة الشذوذ أحيانًا. وهذا يعني أن أحدًا لم ينتظر مُنظّرًا أو مُفتيًا حتى يبيّن له كيف يفتح جهاز حاسوبه ويقلّب صفحات النت التي لا يجد بينه وبينها لا مُراقبًا ولا مُحاسبًا، ولا يشعر منها بوحشة لأنها كُتبت بلغة سهلة مناسبة وبأسماء مألوفة أحيانًا، وتخاطبه بصيغة تحرّض تفكيره وتدعوه للتأمل وتُشْعِرُه بأنه إنسان مُفكّر! ومنها: الإعلام الموجِّه! وخصوصًا الفضائيات والصحافة، والتي أصبحت أوعيةً لتمرير كثير من قضايا الفكر والثقافة المعقّدة أحيانًا وبأساليب تغلب عليها السذاجة والسطحية، لكنها مع ذلك تحتفظ بحظٍ وافر من التأثير المباشر على المكّون الثقافي للفرد والمجتمع. *أبرز المفاهيم الفاعلة في تدعيم ثقافة الانفتاح الفكري: ثمّة العديد من المفاهيم التي كونت مجالًا ثقافيًا يصعب التحرر منه حولت حالة الانفتاح الفكري إلى مكوّن نفسي واجتماعي يتداعى المجتمع والأفراد إلى احترامه والتفاعل معه، ومن أبرز هذه المفاهيم: - مفهوم العولمة، أو انفتاح العالم كقرية واحدة. - مفهوم التعايش والتسامح. - مفهوم قبول الآخر، والمشترك الانساني. - ثنائية الانغلاق والانفتاح، على جهة المقابلة أحيانًا. حيث يُقدّم الانفتاح كخطوة تقدمية لمثاقفة العالم الآخر حوارًا ونقدًا. - التغيير والإصلاح كمطلب وهدف، عن طريق استلهام المعرفة والخبرة وأسرار النهضة بالانفتاح على الآخر المتقدم حضاريًا. وتحتمل هذه المفاهيم وجهين من الحق والباطل، وتحتاج إلى تأصيل وضبط إلا أنه من المهم تقريرها كأصول استرتيجية في الخطاب المنفتح والعابر للقارات. كما أنه من المهم أيضا مراعاة المشكلة والتفاعل معها بواقعية، وتجاوز مرحلة التنظير التي قد لا يلتفت إليها أحد. دوافع الممانعة * سد الذرائع، وهذا الأصل يحتاج إلى ضبط ومراجعة من وجهين: 1- درجة المفسدة المراد سد الطريق نحوها، ومدى آكديتها من توهمها. مع المقارنة بالمصلحة المتوقعة والتي قد تكون راجحة أحيانًا. 2. النظر للجدوى الواقعية في تقدير المفسدة، ومراجعة القدرة على تحقيق أو تطبيق هذا الأصل. وموازنة هذين الأمرين فيه قدر من الدّقة والتفاوت، يعني عدم استسهال إصدار أو تطبيق سدّ الذريعة بمجرد الشّبهة العابرة أو الظنِّة، مع لزوم ملاحظة الفروق الفردية في النظر واختلاف المجتهدين في استكمال جوانبه وزواياه اللازمة. *حصرية الحق والاكتفاء الذاتي: أما حصرية الحق فيُنظر في تحديده وتكييفه؛ فإن كان المراد به هو الحق الشرعي والثوابت الدينية؛ فإنه كذلك إذ الأمة المسلمة بمجموعها لا يخرج عنها الحق، وبعضهم أسعد بكثير منه من البعض الآخر.لكن الواقع أن الذي يأتي من الفكر والمعارف الوافدة من الآخر ليست كلها قضايا دينية أو مصادمة للشرع بشكل صريح، وقد يكون بعضها كذلك وهو الذي ننفتح عليه من أجل ردّه ونقده، لكن بعضها الآخر قد يفيدنا بما لا ينقض ثوابتنا، أو يفيدنا في نقد ما ليس من ثوابتنا كبعض الممارسات الخاطئة أو بعض الأفهام المنسوبة للمنهج وهي ليست منه حقيقةً، ونحو ذلك. وهذا التمييز في المحتوى الوافد هو الذي يظهر بعد الاطلاع والقراءة الفاحصة والناقدة. التسويق للفكر المنحرف، وهذا مبني على اعتبار أمرين: 1 - ثبوت انحرافه وترجح مفسدته. 2 - فرضية التلازم بين الانفتاح والتسويق، وهذا التلازم غير مطّرد لأن الانفتاح قد يكون هو السبيل لمحاربته والتضييق عليه. الموقف من المخالف، والذي يُتوجس من الانفتاح عليه لكونه مخالفًا يظهر في ثلاث جهات: 1 - المخالف في الدين، وهم غير المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم. 2 - المخالف في المنهج، وهم الموصوفون بالبدعة. 3 - المخالف في العادات والتقاليد. والذي يظهر في معالجة إشكالية الموقف من المخالفين: التنبّه لأهمية التفريق بين موقف الانفتاح وموقف التقليد والذوبان في حضن المخالف. فمقتضى الانفتاح لا يلزم منه القبول المطلق لما عند المخالف بل يحكم ذلك الشاهد الشرعي الوارد في حديث “صدقك وهو كذوب” والمقولة السائرة التي أصبحت أصلًا في التلقي عن الآخر “أن الحكمة ضالّة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها”. 4- مشكلات في الصورة الذهنية المكوّنة عن ممارسة الانفتاح ثمّة صورة نمطية يضعها البعض قصدًا، ويتوهمها بعضٌ آخر، عمّن يمارس أو يتفاعل مع حالة الانفتاح، وتتضح ملامح هذه الصورة السلبية في المعالم التالية: 1. تصوير التلازم بين الانفتاح والانفلات من الدين والأخلاق بل إرادة هدم الشريعة. 2. حصر وقصر اطروحة الانفتاح على الاتجاه التنويري أو العصراني، على وجه يُشعر بالشُبهة والتضليل والتهمة في الديانة. 3. ربط حالة الانفتاح بالممارسة الخاطئة وحالة الذوبان والانسلاخ التي وقع فيها بعض المنفتحين غير الراشدين. 4. ربط مظاهر الانفتاح بانحراف السلوك، وضعف التدين الشخصي، وتغيّر مظاهره الشكلية. 5. نقد الانفتاح بحجة ابتعاد المنفتحين عن العلم الشرعي أو ضعفهم وتغيّر لسانهم ومصطلحاتهم. ومجمل هذه المعالم تتجه إلى نقد غير موضوعي لمسألة الانفتاح، ومحاولة التنفير والتحذير بأساليب تقليدية. فبعض الصور الموجودة لا يمكن إثبات التلازم والسببية في الأثر السلبي لها بالانفتاح بل قد ترجع إلى أثر بعض الطبائع والأمزجة، وحالات من المراهقة الفكرية التي يتلبس بها بعض مَن التهم قضايا الانفتاح بغير وعي! ونسبة تغيّر السلوك الديني ليست قاعدة ثابتة أو مختصة في المنفتحين على الآخر، لأن مظاهر ضعف التدين عديدة ومتنوعة قد تكون في أكثر الناس محافظة لكنها لا تظهر على شكله أو في سلوكه الظاهر! كما أن دواعي الضعف الديني أكثر وأكبر من أن تُحصر في سبب واحد أو في جهة محددة. وأما بعض الصور فهي مما لا يُجزم بصحة نقده كتغيّر اللسان واستخدام بعض المصطلحات، فهذا النمط محل اجتهاد لا يعني الخطأ أو التغيّر المذموم! 5- نحو ترشيد الانفتاح الفكري الترشيد هو النتيجة الملائمة للاستجابة الواعية لمعادلة اعتبارين: الأول: موازنة المصالح والمفاسد. الثاني: مراعاة واقع المشكلة. كما أن الترشيد هو الحل الأقرب والأنجع لتفادي حالات الاختطاف والاسترقاق الفكري! ولعل من العناصر التي تساهم في إحداث حالة من الترشيد والوعي الإيجابي: ترسيخ مفهوم الثوابت، وضبط المرجعيات للنص والفهم عنه في النصوص الشرعية على وجه الخصوص. الترشيد الوقائي بالضبط - قدر المستطاع - بالنضج العلمي، والفئة النخبوية. المحافظة على درجة من الممانعة الواعية في صورة “الاحتساب الثقافي” المنضبط بمراعاة المصالح والمفاسد، مع التمييز بين المحتويات في المنشورات والمطبوعات العلمية ذات المنهج العلمي وبين كتب القصص والروايات الركيكة الهابطة. المبادرة برفع الذائقة النقدية الموضوعية عبر تبني الدراسات والأبحاث والمقالات النقدية للموضوعات الداخلية والأفكار والمناهج الوافدة. مع محاولة طرح البدائل الممكنة. 6- أُنْموذج التجربة الواعية لحالة الانفتاح يقدّم د. طه عبد الرحمن في كتابه “روح الحداثة” أنموذجًا معاصرًا واعيًا في كيفية التفاعل بإيجابية مع فكرة من أضخم الأفكار الوافدة من الفكر الغربي وأكثرها رواجًا في العالم العربي والإسلامي، وهي فكرة الحداثة، والتي تعامل معها بمنهجية اعتمدت أساسين: الأول: تصوير ونقد الجانب المنحرف من الرؤية الغربية للحداثة، مع نقد الانعكاس المتحصّل من تطبيق الحداثة الغربية على المحتوى الإسلامي. الثاني: تخليص وترشيد وتأصيل الجانب الصحيح والإيجابي من فكرة الحداثة، وفق السياقات والاعتبارات الإسلامية، حيث قدّم مجموعة من الأنواع والضوابط المُرشّدة واصطلح عليها “بروح الحداثة” في مقابل نقد مادية الحداثة المؤثرة في التطبيق الغربي لها. وبعد هذه التجربة التي قدمها عبدالرحمن قرر ضرورة الاندماج في الفضاء المفهومي الكوني - على حد تعبيره - لأن العالم لا يفتأ يشهد اختراع مفاهيم حضارية جديدة لا تلبث أن تسري في المجتمعات سريان النار في الهشيم! لا يمكن للمجتمع المسلم أن ينفك عنه. لذلك نحن أمام خيارين: إما الاندماج الكُرهي أو الاندماج الطوعي على حد تفصيله. أما الاندماج الكرهي فهو يتضمن الإجبار على تلقي هذه المفاهيم المخترعة على عِلاّتها، ويكون عبارة عن انخراط استتباعي يضرّ بقدرة أبناء المجتمع على إبداع الأفكار المعارف. ويرجح د. طه الاندماج الطوعي القائم على اختيار تلقّي المفاهيم المخترعة، مع فحصها والفعل في مضامينها والاعتراض عليها بقصد التأكد من صلاحيتها. ويكون الاندماج والحالة هذه؛ انخراطًا واعيًا للمجتمع المسلم يحفظ قدرة أبنائه على إبداع الأفكار وإنتاج المعارف.. ثم يطبّق هذا النوع من الانفتاح على الحداثة ويفرّق بين (الحداثة المقلِّدة) التي تُتلقى جبرًا مع التسليم بها، وبين (الحداثة المبدعة) التي يدقق المتلقي النظر في مظاهرها ويُعيد إنتاجها بما يتفق مع مجاله التداولي. •المحاضر بكلية الشريعة - جامعة أم القرى