من معالم تغير خريطة العلاقات الإقليمية خلال السنة الجارية تحسنها بين تركيا وسورية الى حد انها شهدت الشهر الماضي اتفاقاً بينهما على إقامة ما وصف بأنه مجلس أعلى للتعاون الاستراتيجي للتأسيس لعلاقات سياسية وديبلوماسية واقتصادية وتجارية وغيرها كثير، بما في ذلك إلغاء تأشيرات الدخول بين البلدين. هذا التطور اللافت بين تركيا وسورية التي كانت ذات يوم جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، هو إحدى النتائج لرؤية جديدة تبنتها أنقرة في ظل حكم حزب العدالة والتنمية. صاغ هذه الرؤية البروفيسور أحمد داود أوغلو الذي شغل، قبل تعيينه وزيراً للخارجية منذ أشهر قليلة، منصب مستشار رئيس الوزراء طيب رجب اردوغان للسياسة الخارجية وانكب منذ تسلم الحزب الحكم في 2002 على وضع، وتطبيق، أسس هذه الرؤية القائمة على مبدأ مفاده ان مصلحة تركيا تكمن في تصفير مشاكلها مع جميع جيرانها zero problems، على حد تعبيره. مفهوم الجيران، بحسب داود أوغلو، يشمل أيضاً الكرد في إقليم كردستان كياناً دستورياً في إطار العراق الفيديرالي. ولأن جزءاً مهماً من شعب تركيا هم كرد أيضاً، فإنهم وكرد العراق بالتالي من ذوي القربى، وفقاً لهذه الرؤية (الرئيس الراحل تورغوت اوزال كان أول من لاحظ ذلك في 1992). هذا الواقع، مضافاً اليه ان سياسة القمع وإنكار هوية الكرد على مدى عقود لم تؤد سوى الى مزيد من المآسي في تركيا، قاد تدريجاً حزب العدالة الى إدراك ان الأوان حان لوضع نهاية لهذا الوضع الشاذ. والنتيجة هي التغير الجذري غير المسبوق في التفكير التركي تجاه المسألة الكردية في اتجاه معاكس للفكر الكمالي المنسوب الى مصطفى كمال أتاتورك الذي أسس لفكرة مفادها أن شعب تركيا واحد متجانس والتركية لغته الوحيدة وفقاً لشعاره العتيد: «سعيد من يقول أنا تركي». تقود هذه المقدمة الى جوهر الموضوع. في إطار العلاقة الحميمة الجديدة بين دمشقوأنقرة، من المفيد لسورية ان تتعلم الدرس الكردي من تركيا. هنا بداية بعض المعطيات. على عكس الكرد في العراق وتركيا، والى حد ما في إيران، من النادر ان يحظى وضع الكرد في سورية باهتمام خارجي، وهذا يشمل الدول والمنظمات الدولية وفي مقدمها الأممالمتحدة. الاستثناء الوحيد ربما هو تقرير يتيم صدر عن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في مطلع 2005 في اعقاب انتفاضات كردية شهدتها مدن سورية قبل ذلك بأشهر وأسفرت عن سقوط قتلى وجرحى. التقرير اشار الى ممارسة سورية لسياسة تعريب صارمة تطبقها منذ 1962 والى حرمانهم من حقوقهم القومية. وفي نيسان (ابريل) من العام الحالي أصدر المعهد الاميركي للسلام، وهو من معاهد الفكر، دراسة بعنوان «كرد سورية: تأجيج الحركات الانفصالية في المنطقة» وضعها احد باحثي المعهد، رضوان زيادة، تضمن معطيات ومعلومات مفصلة عن وضع الكرد في سورية. بحسب هذه الدراسة تم تصنيف الكرد في سورية الى ثلاثة أصناف في اطار سياسة التعريب: كرد سوريون وكرد أجانب وكرد محجوبون او مستورون concealed. «الأجانب» اسقطت عنهم جنسياتهم وسجلوا رسمياً كأجانب. «المستورون» قدر عددهم بنحو 80 ألفاً بعضهم آباؤهم أجانب وأمهاتهم سوريات وبعض آخر منهم آباؤهم أجانب وأمهاتهم مستورون، وقسم ثالث آباؤهم وأمهاتهم من صنف المستورين. العدد الإجمالي للأصناف الثلاثة نحو 200 ألف شخص. يُضاف الى هؤلاء نحو 280 ألف كردي في سورية من دون جنسية. تقول الدراسة أيضاً ان على رغم الحرمان وهذا التصنيف غير العادل للكرد في سورية فإنهم يصرون على اعتبار أنفسهم سوريين. ووفقاً لاستطلاعات في أوساطهم فحتى الكرد المصنفون أجانب أكدوا سوريتهم مشيرين الى انهم في الواقع ينحدرون من عائلات أصلها سوري. قصارى الكلام، لاحظت الدراسة ما يأتي: إن كرد سورية محرومون من ابسط حقوقهم الاجتماعية والثقافية والسياسية، وفي حالات عدة يعود هذا الحرمان الى رفض الدولة السورية منحهم الجنسية. من جهة أخرى، تشير الدراسة الى ان ما تصفه بالمعارضة الكردية السياسية مجزأ. وعلى رغم ان نسبة ضئيلة من كرد سورية تدعو الى دولة كردية منفصلة، لكنهم عموماً يرفضون الانفصال ويتمسكون بأساليب الكفاح السلمي. وتعتبر الدراسة ان تحقيق إصلاحات ديموقراطية في سورية من شأنه ان يؤدي الى تحسين الحقوق الإنسانية للكرد ولغير الكرد، وبالتالي سيزيل التوترات بين الكرد والدولة السورية. لكن الدراسة ترى ايضاً ان المشاكل التي يواجهها الكرد في سورية لا يمكن حلها تماماً من دون جهود من اجل تحسين الحقوق الانسانية للكرد في المنطقة عموماً، وبالتالي تعزيز تلاحمهم السياسي في اطار الدول التي ينتمون اليها. هذا التقويم الأخير ربما يحدد جوهر المسألة الكردية في المنطقة. طبعاً لا يمكن مقارنة وضع الكرد في العراق بأوضاع الكرد في الدول المجاورة. لكن ليقتصر الحديث هنا على سورية وتركيا. الأخيرة تعتبر مثالاً صارخاً على ما يمكن ان تؤول اليه الأوضاع في ظل تطبيق سياسة إنكار الهوية القومية للآخرين. إذ إن سياسة القسر والقمع والإنكار ومحاولة فرضها بالقوة العسكرية، والكل يعرف حجم هذه القوة في تركيا، لم يقدر لها ان تنجح. وكانت النتيجة ان المواجهات المسلحة منذ بدأت في منتصف الثمانينات أدت الى سقوط نحو 40 ألف قتيل وأحدثت جرحاً عميقاً في المجتمع سيستغرق شفاؤه سنوات طويلة، وربما تتمثل بداية هذا الطريق الطويل في التوجه الجديد لأنقرة نحو الحل السلمي للمسألة الكردية. هذا هو الدرس المهم الذي ينبغي على سورية ان تتعلمه من تركيا في ضوء تجربتها المرة. والأمل ألا يضيّع المسؤولون السوريون فرصة تعلم الدرس الكردي من المعلمين الأتراك. فهل تمتلك سورية الإرادة والرغبة في التعلم؟