المنبر العالمي، الاممالمتحدة، معنا منذ المؤتمر الأول في سان فرانسيسكو عام 1945، وحتى اللحظة: اربعة وستون عاماً! بمعايير الاعمار البشرية هي تدلف طور الشيخوخة، أو تتهيأ له. بمعايير التاريخ، هي لا تزال، بعد، في طفولتها الاولى. النقاش حول جدواها ليس جديداً. في ستينات القرن الماضي فكرت أميركا، أو بعض ساستها، بالانسحاب من المنظمة الاممية، التي تضم جمعية عامة، مناكدة للصقر الاميركي، واليوم يندد ساسة من عالمنا (العالم الثالث أو العربي - الإسلامي، أو الشرق اوسطي) بالمنظمة. العقيد معمّر القذافي مزق الميثاق الاممي في حركة اعتراض رمزية. والرئيس الايراني أحمدي نجاد، الشغوف بالطقوس المنبرية، لجأ الى فن الخطابة، وسيلة للاحتجاج. منذ حرب الخليج في 1991، باتت الهيئة الأممية موضع رضا الولاياتالمتحدة، ومادة امتعاض لقطاعات من العالم الثالث. لكن التوقير الغزلي للأمم المتحدة لم يمنع الخروج عليها في قرار حرب العراق 2003، ثم العودة اليها لإجازة وضع الاحتلال، والإسهام في الانتقال السياسي. ستظل الاممالمتحدة بين شد وجذب، حتى تتحول يوماً، الى ما يشبه الحكومة العالمية، كما أرادها او تخيلها الاب الروحي للفكرة عمانوئيل كانط (ت 1804). وضع كانط تصوره في اطروحته الشهيرة: نحو سلام دائم! وتمكن ترجمة العنوان أيضاً: نحو سلام أبدي أو سرمدي. وهذا الأخير اقرب إلى الأصل بفعل مسحته اللاهوتية. أما لفظة «الدائم» فأقرب الى المفردة الدنيوية، الدارجة. وهذا الفارق بين اللاهوتي والدنيوي هو من صنع الترجمة العربية، والانكليزية. فالاصل الالماني للكلمة هو «Ewig»، اي سرمدي، أبدي، خالد، أزلي، أبد الدهر، وهلمجرا. وهي صفات يلهج بها اللاهوت ولا يقلدها سوى دهاقنة التزلف السياسي، لوصف بعض القادة الدنيويين. والحال ان العنوان: نحو سلام دائم (أو أزلي) لم يكن ضرباً من الشاعرية، بل عبارة صادفها كانط عند بوابة مقبرة. فالموتى يرقدون في سلام، لا حروب، لا ضغائن، لا فساد، لا صدق، لا كذب، لا أحزان، لا دولة، لا ضرائب... وبوسع سلسلة النفي ان تطول حتى الازل. في نظر كانط، كانت الفكرة ان يحل السلام الدائم بين منازل الاحياء، لا في المدافن. وعكف على وضع نظريته على قاعدة مبادئ مصاغة بلغة الفقه الحقوقي المجرد، لتكون بمثابة الا أسس لهيئة عالمية اسماها «اتحاد الشعوب» أو «الشعوب المتحدة»، أو «اتحاد السلام» وظيفتها انتزاع الدولة، هذا الفرد في التاريخ، من همجية التصرف، في الحرب، أو خارجها. ويكاد النص أن يكون مرافعة العقل ضد الحرب، بصفتها وسيلة تلتمسها الدولة الهمجية لحل نزاع او انتزاع حق. ها هوذا يستشهد بأحد الاغريق: «الحرب سيئة من حيث انها تخلق من الاشرار أكثر مما تزيل» (لعل العراق خير شاهد). وبالقطع فإن المسافة الزمنية بين الفكرة أو التصور طويلة: 1795 عام كتابة اطروحة «السلام الدائم»، وعام 1945، عام انشاء المنظمة الأممية: قرن ونصف تماماً (نضرب صفحاً عن هيئة اخرى: عصبة الأمم التي لم تعمر طويلاً). هذا الفارق الزمني بين الفكرة وأول مظهر لتحقيقها، يذكرنا بفكرة أخرى ألمانية المنشأ، فكرة هيغل القائلة إن مفهوم الظاهرة يسبق وجودها، وان تجليها في الواقع يبدأ بوجود محض، يمر بمراحل عدة، حتى يصل الى التطابق مع المفهوم. والحال ان الأممالمتحدة أسست مفهومها قبل قرن ونصف قرن، وبدأت وجودها المحض منذ أكثر من ستة عقود، وقد تجاوزت هذا الوجود المحض، لكنها لم تصل قطعاً بعد الى التطابق مع مفهومها. ولعل الحقوقيين الذين صاغوا ميثاق الاممالمتحدة ما كانوا بعيدين من أطروحة كانط، إن لم يكونوا قد استنسخوها. فكانط يحدد قانون السلام والاتحاد بين الشعوب على أسس عدة بينها: - لا يسوغ لأي دولة مستقلة (صغرت او كبرت) ان تستحوذ على دولة أخرى. - لا يعترف بأية معاهدة صلح إذا كان أطرافها يحتفظون، ضمناً، بحق اللجوء الى حرب جديدة. - يجب أن تزول الجيوش النظامية كلياً، مع الزمن. - لا يحق للدولة اعتماد الاقتراض لتمويل نزاعاتها الخارجية. لا يحق لأي دولة ان تتدخل بالقوة في دستور دولة اخرى. - لا يحق لاي دولة في حال حرب مع دولة أخرى، ان تسمح لنفسها بأعمال عدائية تجعل الثقة مستحيلة بعد استتباب السلام. لا ريب ان المعترضين في الجمعية العمومية على تناقضات، ومثالب، ونقائص الاممالمتحدة، بصيغتها الحالية، سيصفقون جذلاً حين يقرأون اطروحة كانط، التي تدلنا على شوائب الماضي والحاضر. ما زلنا بعيدين، بل نحن نبتعد أكثر عن فكرة «زوال الجيوش النظامية». بعض ميزانياتنا العسكرية تبتلع 40 في المئة من إجمالي الناتج القومي. ونفقات بعض حروبنا تجاوزت إجمالي الناتج المحلي لسنوات! ولا تزال التدخلات في دساتير وحياة الغير، مثلاً، المبدأ السامي. لكن ما يمكن ان نستمده من سند في أطروحات كانط، سرعان ما يهتز، ما ان ندلف الباب الثاني من شروط السلام الأبدي بين الأمم. فهذا السلام يتحقق بتوسط الدولة، وينبغي لهذه الدولة، كممثل للأمة، ان تخضع لجملة شروط كيما تغدو كائناً عاقلاً. وأول شرط هو ان يكون دستور الدولة مدنياً، جمهورياً، قائماً على مبادئ حرية أعضاء المجتمع، وخضوع الجميع لقانون مشترك، والمساواة على أساس المواطنة. ولا ريب ان كثرة من الدول، بما فيها تلك الناقدة للمنظمة الأممية، قاصرة عن تلبية البند الأول في مجموعة شروط تأسيس السلام. فالدولة اللامدنية، دولة عاقة بالضرورة، همجية بالتعريف. وعلى رغم ان الدولة المدنية يمكن ان تتصرف، بل تتصرف فعلاً، بصورة همجية في الحرب، لكن حريتها الداخلية تفسح المجال لعمل العقل، أي للجم الدولة، وإجبارها على الامتثال لمطلب السلم الدائم. كان الفيلسوف الألماني متشائماً إزاء «الطبيعة البشرية»، فهي همجية بالقوة وبالفعل، وكان يضع رهانه على أمنا الطبيعة التي ترغمنا على العيش المتجاور، والاتصال، وتسمح لنا بإقامة علاقات شرعية في حدود. اتحاد الشعوب، كما رآه المؤسسون هو اتحاد للسلام، للجم الجيوش، وزوالها، لسلام الأحياء لا الأموات الدائم، على قاعدة دولة مدنية - دستورية مساواتية. لا أظن أننا، مثل كثيرين غيرنا، نتوفر على شروط الانتماء.