في كتابه الصادر حديثاً بعنوان «مصر والمصريون في عهد مبارك :1981-2008»، يستعير الكاتب المصري جلال امين تعبير «الدولة الرخوة» من الاقتصادي وعالم الاجتماع السويدي غنار مردال في كتاب له بعنوان «تحدي الفقر في العالم»، وذلك كتوصيف لحال الدولة المصرية في زمن الرئيس حسني مبارك. تتصف الدولة الرخوة، بحسب مردال، بكونها دولة تصدر القوانين من دون ان تكون قادرة على تطبيقها، وهي دولة يعمها الفساد وتنتشر فيها الرشوة بحيث يتحول الفساد والرشوة الى نمطي حياة. واستتباعاً لذلك، تهيمن على الدولة الرخوة انماط من السياسات الاقتصادية والداخلية والخارجية تقوم على التخاذل والتراخي والتضحية بمصالح الجمهور الواسع. قد يكون تصنيف الدولة الرخوة وإسقاطه على المجتمعات العربية في المرحلة الراهنة من تطورها واحداً من التوصيفات الحقيقية والدقيقة، يأتي في اعقاب ما شهدته بعض هذه المجتمعات من قيام «دولة قوية» تهاوت واضمحلت، لنصل اليوم الى المرحلة الاخطر القائمة على تلاشي الدولة وشبه انعدام في مقوماتها. يصعب القول بوجود دولة قوية عرفتها كل المجتمعات العربية بعد نيلها الاستقلال، لكن ذلك لا ينفي حصول بعضها في اكثر من مكان. يحتاج تعبير «الدولة القوية» الى شرح لتبيان مضمونه، فالدولة القوية، خلافاً لمعناها القمعي، هي الدولة التي تقود سياسة اقتصادية واجتماعية وثقافية تصب في مصلحة الفئة الساحقة من الشعب، وهي الدولة التي تطبق القانون على الجميع وبالتساوي، هي التي تعترف بالحق في الاعتراض السياسي وإقامة التنظيمات السياسية وتضمن حرية الرأي والتعبير، وهي التي تمنع التمييز على اساس الجنس او العرق او الدين، وهي التي تقود سياسة خارجية تضع في اولوياتها المصالح القومية والوطنية للبلد. لم تتشكل دولة قوية بالمعنى المشار اليه في مجتمعاتنا العربية، بل ان الدولة القوية كانت في الحقيقة دولة بوليسية وأمنية استندت قوتها الى تضخيم اجهزة القمع وتسليطها على الشعب وإقامة حكم ديكتاتوري، قمع الحريات ونكّل بالمعارضين فأودعهم السجون او هجّرهم او ارسلهم الى القبور. هذا النمط من الديكتاتوريات، ما إن تلاشت قبضته حتى تحولت الدولة العربية الى «دولة رخوة» في حد ادنى، والى انهيار الدولة في حده الاقصى. لا شك في ان تعبير «الدولة الرخوة» يكاد يشتمل اليوم على معظم الدول العربية القائمة، والتي لم تعرف الانهيار الكامل في اوضاعها. لا تخلو تقارير دولية او عربية صادرة عن مؤسسات رسمية وغير رسمية من توصيف لحال المجتمعات العربية بأن التخلف المتعدد الوجوه هو السمة العامة لهذه المجتمعات. يتجلى هذا التخلف في الميدان الاقتصادي باتباع سياسات تخدم اقلية من المتنفذين على حساب الغالبية الساحقة من الشعب، ومن تجليات واسعة في ازدهار البطالة وسيطرة ساحقة للأمية وهجرة الى الخارج سعياً وراء لقمة العيش، كله في ظل تفشي الفساد في شكل رهيب وسيادة الرشوة على كل المستويات. يترافق ذلك مع سياسات خارجية بعيدة من المصالح الوطنية والقومية. تفيد هذه الدولة من كون «الدولة القوية» التي سبقتها قد تكفلت في القضاء على القوى السياسية والاجتماعية المعارضة والتي يمكن ان تحد من انفلات تحكمها بمقدرات البلد. وهذا الاطمئنان على انعدام القوى يطلق يد الفئات المتنفذة في استباحة المقدرات وتوظيفها خارج المصالح العامة، بل في خدمة اقلية ضئيلة من الطبقة الحاكمة. هذا المشهد لما يعرف بالدولة الرخوة يغلب اليوم على معظم الدول العربية في شكل متفاوت ووفقاً لواقع كل بلد وخصوصياته. لكنْ تسجل بعض المجتمعات العربية في السنوات الاخيرة تراجعاً عن «الدولة الرخوة» لمصلحة انهيارها وتلاشي مقوماتها واستعادة المقومات العصبية الطائفية والعشائرية والقبلية والإثنية. وهي العصبيات التي امكن الدولة التي قامت، قوية ام رخوة، ان تتجاوزها في شكل نسبي لمصلحة العام المشترك. في نموذج اول يمثله العراق الذي كان يصنف «دولة قوية»، تسبب الاحتلال الاميركي بالشراكة الكاملة مع انفجار البنى الاهلية فيه، في حروب اهلية متواصلة، وفي تفكك بنى الدولة لمصلحة العصبيات التي بدا انها كانت في حالة كمون، وانتظرت ما حدث لتنتصب بقوة في وصفها تعبيراً عن طبيعة الدولة الجديدة. ولا يبدو ان العراق في وضعه الراهن قادر على ان يكون دولة رخوة على الاقل، ناهيك باستحالة استعادة شبه الدولة القوية، التي نرى اليوم ان كثيراً من العراقيين بات يترحّم عليها ويتمنى لو بقيت، على رغم المآسي التي تسببت بها لمجمل الشعب العراقي على يد ديكتاتورية رهيبة. النموذج الثاني هو اللبناني الذي تلاشت فيه الدولة خلال الحرب الاهلية، ولم تنته بعد مفاعيل هذه الحرب، حيث يعجز اللبنانيون اليوم عن تأليف حكومة يمكنها ان تقود البلد وتمنع تجدد الحروب الاهلية. لم يكن لبنان في يوم من الايام «دولة قوية» على غرار مصر او العراق، بل انه اكثر الدول العربية اتساماً بكونه «دولة رخوة» وذلك منذ تكونه منتصف القرن الماضي. يتساءل اللبنانيون ما اذا كان في امكانهم الحلم باستعادة هذه الدولة الرخوة اليوم بعدما وصلت الاوضاع الى شبه انهيار كامل لمؤسساتها وغياب للمشترك فيها، لمصلحة طوائف اكتسحت الدولة والمجتمع وأوجدت انقساماً عمودياً وأفقياً في البلد، وهي تسعى اليوم للاستيلاء على ما تبقى من مؤسسات الدولة، بحيث تلتقي الطوائف كلها على مقولة عدم الحاجة الى دولة. اما النموذج الثالث فهو اليمن، الذي تدرج من «دولة رخوة» الى سعي لأن يكون «دولة قوية» بعد توحيد شطري البلاد، وهو سعي يقوم على توظيف القوة المادية في اخضاع البلاد لديكتاتورية مشابهة لقريناتها العربية. يعيش اليمن حروباً اهلية بين المكونات العصبية لما قبل الدولة وبين شبه الدولة القائمة. لن يكون من غرائب الامور ان يتحول اليمن الى عراق آخر، ولن يصعب عليه تمثل الحالة اللبنانية في استمرارية حروبه الاهلية. في عالم يشهد تطوراً حضارياً على كل المستويات، تقف المجتمعات العربية امام «تطور الى الخلف»، بحيث لا تعجز فقط عن الدخول في التقدم والحداثة، بل تسير حثيثاً في تدمير الحد الأدنى من التحديث الذي حققته في عقود سابقة. * كاتب لبناني.