في إحدى القرى الواقعة على أطراف القاهرة اختار آدم حنين العيش والعمل بعيداً من زحام المدينة وضوضائها، هناك أقام بيته ومحترفه. المكان مزدحم بالأحجار. كتل كبيرة ما زالت محتفظة بطبيعتها وأخرى في طريقها إلى التشكل، بينما انتصبت في مختلف الأنحاء تماثيل حجرية وبرونزية تشارك صاحبها فضاءه الخاص وصومعته التي لا يبارحها إلا قليلاً. أصوات الآلات لا تتوقف، فالأحجار التي جلبها من الجنوب المصري صعبة المراس تحتاج إلى أيد خبيرة بأسرارها وخباياها، وما بين الصمت والسكون الذي يشع من أعين التماثيل الحجرية وتلك الأصوات العالية للآلات، ثمة حوار بالغ القدم لم يتوقف ولن ينتهي. فور مشاهدتك أعمال آدم حنين لا بد من أن تخرج بانطباع خاص يشبه ما تشعر به حيال تلك المنحوتات والتماثيل التي أبدعها المصري القديم قبل آلاف السنين، فهل عرف السر؟ هل تسلم التعويذة من هؤلاء القدماء كي تنضح أعماله بكل هذا البهاء والروعة والسكون؟ كان الأمر في البداية مجرد مصادفة قادته وهو صغير إلى المتحف المصري في القاهرة في رحلة مدرسية، هناك شاهد للمرة الأولى كل هذا الكم من التماثيل. حينها أدرك الطفل الصغير وجهته الحقيقية، وعرف ماذا يريد أن يكون، وبات شغوفاً بتشكيل الكتل وصناعة التماثيل، ذلك الشغف الطفولي الذي لم يفارقه حتى اليوم. يقول متذكراً طفولته: «كنت وأنا صغير أصنع تماثيل من الحجر والطين وأعرضها على أقاربي، وكان أبي يدفعني إلى الاستمرار بتشجيعه لي، وأذكر ذات مرة أنه أخذ واحداً من هذه التماثيل ووضعه للعرض في ورشة الفضة التي كان يملكها وكان يريه لأصدقائه ومعارفه، وهكذا خضت تجربة العرض منذ كنت طفلاً، وظل ما رأيته في المتحف المصري في القاهرة عالقاً في ذهني يؤسس من دون أن أدري في داخلي مقياساً وقانوناً ورؤية خاصة للفن والأشياء، حتى حين التحقت بالفنون الجميلة كنت مشبعاً بتصوراتي الشخصية عن الفن، الأمر الذي كان سبباً للصدامات أثناء الدراسة». سألته عن هذا المحترف الذي أنشأه ليستقر به بعد عودته من تلك الرحلة الطويلة إلى أوروبا، وعن محمود وماجد تلميذيه الوحيدين ومساعديه أيضاً واللذين يملآن المكان صخباً بأصوات الأزاميل والقواطع الكهربية. يقول آدم حنين: «اخترت قرية الحرانية لأنها بعيدة من صخب القاهرة ولأنها قريبة من حياة الفطرة والبساطة التي أحبها، وأكثر ما يقلقني هذا الزحف المخيف للكتل الخرسانية التي بدأت تحجب الأفق بهيئتها المقبضة». ويقول عن مساعديه محمود وماجد اللذين اختارا دراسة النحت على يديه: «محمود من أسوان... حين التقيت به لمحت على الفور ذلك الذكاء الطبيعي الذي يشع من عينيه، وعلى رغم أنه لم يدرس الفن في شكل أكاديمي، إلا أنه فنان بالفطرة، ومن خلال وجوده معي استطاع الإلمام سريعاً بمقومات العمل وأنا أراه اليوم متفوقاً على الكثير من خريجي الكليات والمعاهد الفنية، وهو يشارك باستمرار في المعارض الجماعية كما حصل على عدد من الجوائز أيضاً، أما ماجد فهو من خريجي الفنون الجميلة - قسم نحت». فلنتحدث عن تجربتك مع الفن وعن هذه العلامات الفارقة التي غيرت مسار حياتك بداية من رحلتك إلى الجنوب المصري فور تخرجك في كلية الفنون الجميلة، ثم سفرك إلى ألمانيا وإقامتك الطويلة في فرنسا والتي دامت ما يقرب من الخمسة وعشرين عاماً ثم عودتك مرة أخرى إلى مصر... فما أسباب السفر والهجرة ثم العودة والاستقرار مرة أخرى في أرض الوطن؟ يقول آدم حنين: «ذهابي إلى الأقصر بعد تخرجي في كلية الفنون الجميلة كان منحة مقدمة من وزارة الثقافة حينها للإقامة والعمل لمدة عامين في مراسم الأقصر، وقد ساهمت تلك الإقامة في التشديد على ذلك التوجه الذي وضعته لنفسي، فهناك التحمت أكثر بما أنجزه المصري القديم، شعرت بمعاناته وتشبعت بطريقته في معالجة عناصر أو مفردات الطبيعة من حوله، عرفت القانون والإطار الذي يجب علي العمل من خلاله، لذا حين ذهبت إلى أوروبا لم أكن مهتزاً، كنت أشعر أنني أقف على أرضية صلبة وقوية، لم أكن خائفاً لأنني أملك هويتي الخاصة التي أحتمي بها وألجأ إليها، غير أن هذا الأمر لم يمنعني مطلقاً من الاستفادة من معطيات الفن الأوروبي من نظريات ومدارس واتجاهات وطريقة في التفكير، وهو ما انعكس على تجربتي وأعمالي عموماً. هل تؤمن بضرورة الحفاظ على التوازن بين الأصالة والمعاصرة؟ - أنا غير مهتم بهذه التقسيمات، حتى مفهوم الهوية أجد صعوبة في استساغته، فأنا الهوية، أنا من هنا، ولا بد من أنني قد تشبعت بكل المعطيات التي تشكل المجتمع الذي أنتمى إليه من جغرافيا وتاريخ وثقافة، وحين أنتقل إلى أي مكان آخر لا أستطيع أبداً الانسلاخ عن كل هذا. لكن هناك من يختار الانسلاخ ولا يقاوم الذوبان في قيم الآخر ومعطياته؟ - هي نماذج قليلة وغير صادقة، فالتصنع لا بد من أن يكون السمة الرئيسة في إنتاجهم، وهو أمر بغيض ومناف للإبداع، فحركة الفن الغربي حركة عريقة وتستند إلى تاريخ قوي، لكن الفن ليس في أوروبا وحدها، فأفريقيا فيها فن والصين لديها فن وإيران لديها فن، لكننا حصرنا أنفسنا في دراسة الفن الغربي وتتبع مدارسه واتجاهاته وهذا خطأ كبير، فالغرب جرب كل شيء وأنشأ مدارس ونظريات وغيّر في مفاهيم الناس، لكنهم هناك الآن وصلوا إلى درجة الإفلاس، وأنا لا أحب أن أقول هذا إلا أنها الحقيقة، نعم هناك تجارب واتجاهات كثيرة مؤثرة، ولكن أيضاً يوجد إسفاف وتدنٍ ويجب علينا أن نلتفت الى هذا الأمر وندركه جيداً لأن هناك من يتأثر بالسلبيات ولا يلتفت إلى الإيجابيات. وكيف استطاع آدم حنين أن يحمي نفسه من هذه السلبيات؟ - لقد ذهبت إلى أوروبا كما قلت لك ولديَّ مقياسي الخاص الذي كنت أقيس به كل شيء، فعلى رغم الإغراءات الكثيرة التي كانت أمامي إلا أنني استطعت أن أحدد ما يتناسب مع طبيعتي كفنان مصري يستند إلى حضارة وتاريخ فني يختلف إلى حد كبير عما هو موجود في الغرب... فقد ذهبت إلى هناك ولديَّ مقياس أحدد به ما أقبله وما أرفضه. بعد عودتك الأخيرة إلى مصر كان هناك مشروع على درجة كبيرة من الأهمية في انتظارك وهو سمبوزيوم النحت الدولي الذي ما زلت تشرف عليه حتى الآن، فمن كان صاحب فكرة هذا السمبوزيوم وكيف ترى الفائدة التي عادت من خلاله على الحركة الفنية المصرية بعد 13 عاماً؟ - حين كنت في فرنسا كانت علاقتي جيدة بالفنان فاروق حسني الذي كان وقتها مديراً للمركز الثقافي المصري في باريس، وحدث في تلك الفترة أن شاركت في سمبوزيوم للنحت في يوغوسلافيا وعدت مبهوراً من هناك وتحدثت حينها مع فاروق حسني حول أهمية وجود حدث مشابه في مصر لعلمي بتراجع الاهتمام بالنحت على الأحجار هناك، وهو أمر غريب على بلد تفاخر ليل نهار بصروحها النحتية التي أبهرت العالم. وتذكر فاروق حسني ذلك الأمر حال توليه وزارة الثقافة المصرية واستدعاني لأشرف على سمبوزيوم النحت الدولي الذي اخترنا له أسوان ليكون قريباً من المحاجر نفسها التي كان يستعملها المصري القديم في جلب أحجاره، وهكذا تحقق الحلم، وقد واجهتني في البداية صعوبات كثيرة خاصة بالتنظيم، غير أن تدخل الوزير أنقذ السمبوزيوم من التوقف وساهم في استمراره حتى الآن، وهو أمر يحسب له، فقد أعاد هذا السمبوزيوم للنحت على الحجر قيمته وتقديره وأصبح هناك جيل من الفنانين يمارسون النحت على الحجر بكل أنواعه، وهو أمر يرد الاعتبار الى هذا النوع من الفن الذي كانت نشأته مصرية في الأساس. هل كان السمبوزيوم سبب عودتك واستقرارك مرة أخرى في مصر؟ - كان أحد الأسباب، لكنه لم يكن السبب الوحيد، هناك أسباب أخرى كثيرة، منها ارتباطي بهذه الأرض وتلك الوجوه المحيطة بي، فكان من الصعب علي أن أظل بعيداً من الوطن أكثر من ذلك، فهناك من لم يفارقوه أبداً لكنهم منفصلون عنه تمام الانفصال.