كل شاعر عربي حديث (أبعد من التفعيلة والنثر) فيه شيء من أنسي الحاج حتى وإن لم يقرأه. كنت أظن أن لا شيء فيَّ من أنسي الحاج الى أن تبيِّنت (أبعد من اللغة والموضوع) أنه موجود فيَّ. انه موجود في عروق الموجة الجديدة للقصيدة العربية الحديثة من دون العودة، بالضرورة، الى «لن» أو «الرأس المقطوع»، ولا «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع». لأن كلَّ تمرد، كلَّ التواء، كلَّ معصية، كل عجرفة، كل تواضع، كل تشبث بالحياة، كل عناق عنيف للموت يحيل، تقريباً، إلى ذلك الشاعر اللبناني الأكثر صمتاً وتوارياً من كل الرواد. ذلك الذي يبدأ كما العصاة الكبار، ب «لن» ، وب «رأس مقطوع « ينتفض حياة ولعنة في آن، حتى وإن مال في نتاجه الأخير إلى دعوة الطائع والعاصي إلى الوليمة. لو كُتِبَ شعر أنسي الحاج الآن لبدا غريباً وصادماً للذائقة العربية المفتونة بالبلاغة والفخفخة الإيقاعية فكيف وهو يأتينا من خمسة عقود خلت أو أكثر، بالقرب من «العمودي»، وفي ذروة الانخطاف بقشرة السياسة وسطح الفكرة المغيّرة. ففي حين كان دعاة التغيير يغيّرون الخارج كان أنسي الحاج يعمل على تغيير الداخل. بل يفجّره. يضع ديناميته في الجذر وينسف بعنف وهذيان. عنف فتيٌّ متطاولٌ، عنف الذي يعمل ما يجهل، ولكنه يحدسه، على شكل التواءات وخضات، في أعماقه. أقصد هذه المقامرة الخطرة مع الكلمات والمعنى كأنها روليت روسي يرفع الدم كلّه إلى الصدغ. عنف شعري لا يقبل المساومة. كل شيء أو لا شيء. تقرأ «لن» فتسمع الانفجارات تتوالى في رحم الكلمة والمعنى. تقرأ فيلتوي لسانك ويوجعك حنكك. ترمي الكتاب بعيداً، ثم تعود إليه مصاباً بعدوى الهدم. أي لغة ناشزة هذه؟ وأي معان مقلقة ومنحرفة؟ تقرأ فتنزعج بدل أن تقرأ فتسرُّ. لأنك تقرأ ما لا تألف. والألفة سرور وطمأنينة. لكن هذا شاعر لا يطمئنك ولا يعدك برحلة مضمونة. هكذا بدا أنسي الحاج ب «لن» و «الرأس المقطوع». فماذا تتوقع من شاعر يبدأ بهذين: النفي والعنف؟ غير أن النفي الجذري ليس بعيداً من النبوّة . ليست نبوة جبران.. المتصالحة، السلامية التي تَعِدُ النفس بالراحة والخلاص بل نبوّة المتنبي. ذلك الصائح المحكي العاصي والعاصف الذي رأى الجسد والأرض يضيقان بالفكرة الثائرة والكلمات بالمعنى المتفلّت، والنفس بالمراد المجهول. أو «نبوّة» صاحب «الكتاب» التي تذهب مع المتنبي في رحلة دانتية فنرى الدم والرؤوس المجندلة ونسمع الأنين يتصادى بين المطهر والجحيم الأرضيين، وما كنا نحسب «أن الموت طوى هذه الجموع». من الغضب إلى عِرَافة «ماضي الأيام الآتية» يمضي أنسي الحاج، إلى أن تأتي الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع فتحل النعمة محل النقمة، والبركة محل اللعنة والرجاء محل اليأس. فتصبح الحبيبة الوجه الآخر للتكوين. الحبيبة هي التي تشْكُم عنف الفتى بشعر طويل حتى الينابيع، بحرير أنوثة كثيرة على رجل قادم من عنف الفأس فيرمي الفأس ويمشي وراء الرسولة ليتزيَّن بالغيرة على هذه الكثيرة، ثم ليتطهر من الغيرة بدعوة المنفيين إلى سلام المملكة.. تعالوا من أعماق اليأس ومشارف الصقيع (...) تعالوا المملكة مفتوحة ينادي أنسي الحاج منفيي الحب والرجاء الى الكنز. الشاعر اللعين، العاصي، الغيور، المتطاول، شاعر الفأس والديناميت يرى ما يتلألأ في البعيد بعد الظمأ. ليس السراب ما يلمع على وجه الصحراء. إنه الينبوع. تأخرت الهدية يا أنسي الحاج.فالهدايا دائماً متأخرة. لأنها العيد.والعيد حلوى الانتظار. أكتب هذه الكلمات وأجدُ أنسي الحاج يتسلل الى كلماتي. فلن تسلم من العدوى، عدو الحبّ، هذه المرة، وأنت تقرأ أنسي الحاج، أو تتحدث عنه.