يصدر خلال أيام العدد الأول من مجلة «بيت الشعر» عن بيت الشعر في أبو ظبي، في اشراف عام للشاعر حبيب الصايغ، رئيس التحرير ابراهيم محمد ابراهيم ومدير التحرير بشير البكر. وخصت المجلة «الحياة» بحوار مع الشاعر أنسي الحاج ستنشره في العدد الأول، وكان اجراه في بيروت فيديل سبيتي. هنا الحوار. لا يملك أنسي الحاج بياناً شعرياً يكتبه اليوم على غرار بيان «لن» الشهير، بل يقول في جواب على سؤالنا: «لو وضعت مقدمة «لن» اليوم لكنت سأكون أكثر ليونة، وكان هذا سيكون خطأ». ربما يكون على حق في موقفه هذا بعدما قطعت قصيدة النثر أشواطاً وأجيالاً منذ أطلق هو ورفاقه مجلة «شعر» في آخر الخمسينات، ومنذ بات بيان «لن» مَعْلَماً من معالم هذه القصيدة، ولكن في بداياتها وليس في حالتها الراهنة، إذ تخلصت قصيدة النثر من «عقدة ذنبها»، ولم تعد تحتاج الى من ينظّر لها ليبرر وجودها أو ليحميها من سطوة التراث وسلطان الموروث. لكنّ تحرّر القصيدة الحديثة وانطلاقها في فضاءات الثقافة العربية أتاحا لها أن تُكتب في كل مكان من العالم العربي، وبات اسم الشاعر يُطلق على صاحب مجموعة شعرية «حديثة»، لكن ّلا يعني أنه يمكن التحرّر من سطوة جيل الرواد، أي أنسي الحاج ويوسف الخال وأدونيس ومحمد الماغوط وشوقي أبو شقرا وتوفيق الصائغ... وآخرين لا يقلون عنهم أهمية. حين قررت مقابلة أنسي الحاج، لم اظن أنه سيوافق بسهولة، هو المقلّ من إطلالاته الإعلامية، لكنّ موافقته وضعتني في موقف فيه كثير من الرهبة، رهبة هي موقع أنسي من قصيدة النثر اللبنانية والعربية، وما قد يقوله الآن عن تجربته الممتدة أكثر من نصف قرن. لنقل إنها رهبة ما يفصل جيلَيْنا من زمن شعري ومن أجيال شعرية، فنحن هنا في لبنان اعتدنا تقسيم الأجيال على الشكل الآتي: جيل الرواد - جيل ما بعد الرواد - جيل السبعينات - جيل الحرب - جيل ما بعد الحرب - جيل الشباب (أي الذين ينشرون منذ مطلع القرن الحادي والعشرين). وإذا كان عليّ كي أصل الى أنسي الحاج أن أعود بمركبة الزمن الى الجيل الأول، قاطعاً كل تلك المسافة بين الأجيال الفاصلة بيننا، فكان عليّ أيضاً أن أبدو عارفاً بهذا الزمن المديد، وأنا لا أعرفه كله، وكان عليّ أن أبدو حافظاً عن ظهر قلب دور الرواد تجاه القصيدة الحديثة، وهذا ما لا أفقهه كلّه أيضاً. معرفتي المتواضعة بالزمن التأريخي أضافت الى رهبة اللقاء رهبة التثاقف، لذا قررت أن أتوجه الى أنسي الحاج بأسئلة مقتضبة وسريعة ومباشرة، بلا كثير «تفلسف» أو تنظير: تجربتك الشعريّة تمتدّ من آخر الخمسينات حتى اليوم. تجربة مغايرة ومشاكسة أطلقت لغة شعريّة جديدة. لو أراد أنسي الحاج أن يجري حساباً مع هذه التجربة في إخفاقاتها ونجاحاتها وما حققته حتى الآن، فماذا يمكن أن يقول؟ هل يجب إجراء تلك المراجعة؟ - لا، من وجهة نظري، يجب عدم إجرائها. ينتابني الفزع أمام هذا النوع من الأسئلة. لماذا؟ - لم أكتب لأجري حساباً، بل لآخذ حقي في التنفّس. لا يحاسَب المرء على أنفاسه. لكنه هنا حساب بمعنى التقييم. - تقييمي لنفسي لن يؤخذ به. أنت تقيّم الآخر كما يقيّمك هو. هذا هو جمال المسافة وهذا هو ظلمها. ولكن هل تندم أنت شخصياً على مرحلة ما؟ على كتاب؟ على كتابة ما؟ ألا تفضّل عندما تلتفت الى الوراء نتاجاً لك على آخر؟ لقد سلكَتْ تجربتُك الشعرية دروباً مختلفة وتعددت فيها الأساليب وتغيرت المناخات، من الرفض الى القبول، وغير ذلك من المدّ والجزر... - صحيح، مثل الشرنقة والفراشة، إذا أردت. الشرنقة «لن» و«الرأس المقطوع» هو الفراشة و«ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» و«الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»؟ - اذا أردت. وأحياناً في الشرنقة فراشة لاعبة من الداخل. لنعد الى البدايات. لماذا تحوّل شعراء «الريادة» الى نجوم في الستينات؟ ما هي المقاييس التي جعلت بعض الرواد نجوماً وبعضهم منسيين؟ - نتج الدوي من اصطدام الجديد بالقديم، قديم الكتابة وقديم المفاهيم وقديم المواقف. وسيلة النقل كانت الصحافة. لو اقتصر النشر على المجلات المتخصصة لما انتبه أحد. والنجومية؟ - هذه أيضاً أحد مولداتها الصحافة. لكنّ السبب في العمق هو التصدي بعنف للتابو. شعراء انتحاريون تابو من أي نوع؟ - في الظاهر تابو أدبي ولغوي وسياسي، وفي الجوهر تابو في المطلق. في الحقيقة هناك مجموعة أسباب لما تسميه نجومية، في طليعتها ما قد نميل الى نسيانه غالباً، وهو أننا نحن، الرواد كما تسمينا، كنا نضم بعض الانتحاريين. الانتحاري شخص يبعث سلوكه على الرهبة. يرسم حول ذاته دوائر صخب نفسي ورعب. إنه مزعج ومثير للفضول، خصوصاً حين يمتشق على الدوام نرجسيته ويطلق لها العنان. أنا كنت هكذا، سواي أيضاً. الذين تواضعوا وخفضوا أصواتهم تعتبرهم أنت منسيين، يأتي وقت يعاد فيه الاعتبار الى المتواضعين. هل حققت قصيدة النثر في لبنان والعالم العربي ما أردتم لها أن تحقق على صعيد اللغة والتعبير عن هموم الإنسان المعاصر؟ - لا أحب التعميم. الشعر هو الشعراء، هو الشاعر. بعضهم فتح أبواباً وآفاقاً مدهشة. بعضهم نصيبه أقلّ. وهناك أجيال جديدة أضافت إيقاعاتها ولا تزال في طور التشكّل. أما هموم الإنسان، المعاصر وغير المعاصر، فهي من بديهيات التكوين الشعري ولا حاجة لإعلانها في مشروع. جلّ ما يُطمح إليه في هذا المجال هو أن يجد الشاعر اللغة التي تماشي إيقاعات وجدانه وتعانق تجاربه ورؤاه وعواطفه وأحلامه. إن أهم ما حققته الكتابة الحديثة، وبينها قصائد النثر، هو أنها تجرأت على أن تتقمّص ذاتها. في رأيك هل تستطيع مجلة شعرية في هذه الآونة أن تصنع ما صنعته مجلة «شعر» في الستينات على صعيد الثقافة العربية؟ - الفنون لا تتوقف. الأدب، وهو من الفنون، لا يعرف نهاية. طبعاً تستطيع مجلة جديدة أن تحقق أشياء مهمة، فعندما يكون لدى المرء ما يقوله لا يمكن الا أن يجد من يصغي إليه. ما هي الظروف التي سنحت لمجلة «شعر» ولن تسنح لمجلة أخرى حتى الآن؟ أقصد لماذا يبدو أن لا أفق لمجلة شعرية تطمح الى تغيير ما؟ - الظروف التي تكوّنت مجلة «شعر» في ظلّها قامت على التقاء أشخاص مناسبين بلحظة تاريخية مناسبة. المطلوب ليس «تغييراً ما»، بل أن يكون الكاتب نفسه. هناك أشياء في الفن لا تتغيّر، مثل القضايا الكبرى التي تواجه الضمير، وهناك أشياء تتغّير تبعاً لتطور الأزمنة. لقاء الخالد بالمتغيّر هو، غالباً، ما يحتّم المفترقات، والمفترقات هنا بمعنى الإضافات او فتح الآفاق، لا بمعنى الإلغاء. الفنون الجيدة أو العظيمة لا يلغي بعضها بعضاً، بل يضاف بعضها الى بعض. يسقط منها ما يسقط، ولكن بفعل هزاله لا بسبب ولادة أصوات جديدة. هل يمكن القول إن قصيدة النثر دخلت في نسيج الثقافة العربية واللبنانية؟ هل هي جزء من التراث الأدبي والشعري العام؟ - يبدو لي ذلك، لكنّ الأمر برمتّه تخالطه التباسات خطيرة، منها، على سبيل المثال، الاعتقاد بأن أي شيء موزّع في سطور قليلة الألفاظ هو قصيدة نثر، أو أن أي قصيدة نثر هي شعر. هذه التفاصيل تحتاج الى نقد صارم. ما تسميه «نسيج الثقافة العربية» و «التراث الأدبي والشعري العام» ليس مهماً على الإطلاق، بل يمكن الادعاء أن المهم هو العكس تماماً، أي الإتيان بجديد يخرج على الموروث ويسطع. الخروج على الموروث هو الخلق. الجديد الخلاّق لا بد من أن ينضم عاجلاً أو آجلاً الى البنيان الفني أو الأدبي العام، ويجب أن يكون البنيان الفني والأدبي العام هذا أسرة عظيمة حتى يشكل الانضمام إليه اعتزازاً للقادم الجديد. في وضعنا الراهن، وفي وضعنا السابق أيضاً، يمكن اعتبار التراث العام موضع إعجاب في البعض منه وموضع نقد ومراجعة في بعضه الآخر. لا تزال المنائر هنا، أو الكواكب، معزولة. ما هي العلاقة بين أنسي الشخص وأنسي الشاعر، متى يبدأ الأول وينتهي الآخر؟ - مهما فكرت في هذا السؤال فلن أعثر على جواب يقنعني. مقدمة «لن» هل ما زال أنسي الشخصَ نفسه الذي كتب بيان «لن» في الثانية والعشرين من عمره؟ ما الذي تبدّل بعد كل تلك السنوات؟ - لو وضعت مقدمة «لن» اليوم لكنت سأكون أكثر ليونة، وكان هذا سيكون خطأ. هل هناك بيان آخر تريد كتابته؟ - لا. يقول أدونيس: «أنسي هو الأنقى بيننا». من يقصد ب «بيننا»؟ هل توافقه الرأي؟ ما معنى الأنقى؟ - أظن أنه كان يشير الى جماعة مجلة «شعر». الأنقى معناها واضح، وأنا لا أستحق هذه التبرئة. غالباً ما يردد النقاد بأن أنسي متأثر بالشعراء الأوروبيين، الفرنسيين منهم تحديداً. هل هذا صحيح؟ وإذا كان صحيحاً، فبمن تأثّر أنسي فعلاً؟ ومن هو شاعرك المفضّل؟ - أنا متأثر بشعر القرن التاسع عشر الفرنسي وبالشعراء السورياليين وبعض أصدقائهم. معظم الأحيان أراني معجباً بنثرهم أكثر من قصائدهم، إلا بول إيلوار، فهو هو في كل ما كتب. لماذا تظهر المرأة في شاكلتين متناقضتين في ما تكتبه، مرة شهوانية ومرة مقدسة، مرة محسوسة وملموسة ومرة أثيرية؟ - ربما تقصد مشتهاة أكثر مما تقصد شهوانية، وليست أثيرية بل خيالية. المرأة مرآة أحلامي. من هي هذه المرأة؟ - هي مصيدتي وأمي. وأيضاً؟ - هي الطفلة التي أعشقها في الناضجة والعابثة، والبيضاء التي يستهويني ظلامها. وأيضاً؟ - هي من أحار بين جسدها وعطرها، شعرها ووجودها، عينيها وعقلها. وأيضاً؟ - هي خيالها من وراء النافذة. هي مخاطرتي وسلامي، ثرثرتي وانطوائي، من أنخدع به ومن ينخدع بي، القالب الصاهر بين الجوهرين: الرغبة والحنان. هل وجدتَها؟ - وجدتُها دائماً وأضعتُها دائماً.