يقول الشاعر الفرنسي جيلبير: «وكم رأينا من صفات حميدة وآثار مجيدة لا يُحلِّها الناس محل الاستحسان، ولا ينظرون إليها بعين القبول. فكم اجتمعوا على نبذ الحسن وأخذ القبيح. لا فرق في ذلك في الزمان والمكان. فتراه واقعاً في كل أمة، وكل موطن. فهل لهذا الداء يوماً من دواء؟ وأظن أن علاجه في أن ينقلب الأغبياءُ في العالم أذكياءَ. ويصبح الجهلاءُ حكماءَ. ولا يتيسر إلاّ بتغيير الخلقة والفطرة. وذلك غير ممكن. فلم يبق سوى الصبر والاحتمال على الذين لا يحيطون بالأمور إلاّ من جهة النظر واللمس، لا من جهة العقل والفكر. وهم لصغر نفوسهم لا يزالون يفضّلون الجاهل السافل على العالم الفاضل». وجيلبير وإن توفي عام 1780 غير أن معانيه وكأنها تحاكي اليوم. فإذا على الآثار والقرارات التي تخاطب مقام الفكر والحكمة، فأهل تقديرها والمأهلون للحكم عليها في حاضرها قلة وندرة. ولكن الإنصاف آتيها وسيصل إليها حقها وإن في زمن وأناس آخرين، ممن تكون غيرتهم خبت لعدم اتصالهم بأصحاب الآثار. ومشاعرهم بالحسد والحقد فيما لو أعلوا من أفكار غيرهم قد انتفت. ومعها إحساسهم في أن الاعتراف بذكاء أحدهم وموهبته قد يحط من مستواهم ممن يكونون أقل منه. الإجحاف الذي يتخفّف منه عادة اللاحقون ممن يُقِرون بمزية الأعمال السابقة لهم لراحتهم من لهث المنافسة. على أن أهم عامل في الذكر والاعتراف هو الوقت ونتائجه. وإليك مارغريت تاتشر من اتخذت قرارات لم تكن شعبية جماهيرية، فأثبتت السنون صواب رؤيتها عن قصار النظر من معارضيها. ولو لم يحصل المرء على عدل أرباب محكمته الابتدائية، فلا بد من أن ينتصر العمل المبدع والقرار الحكيم، ويفرضا اسم صاحبهما مع محكمة الاستئناف التي يقيمها الزمن بطبيعة دورته في نبش التاريخ. ولنا في الآثار الباقية أكبر برهان، فصدق الشيخ ابن عثيمين عندما قال: «عُمر الإنسان بعد مماته، وليس في حياته». فلم لم يلتفت إلى الراحلين معاصروهم؟ ثم تناقل الناس لاحقاً أعمال هؤلاء المهمَلين وقراراتهم -التي رُجموا بسببها - بالإعلاء بعد الفحص والتفصيل. غير أن الإنسان بطبيعته لا يحيط من الأشياء بما يناسب قريحته ومعرفته وذائقته ويجانسها. فلربما لم يتوافق اجتماع تلك الأمور وقت تقويم العمل فتولّد الإنكار. ثم تم الاجتماع في زمن أبعد فقُبل. إلاّ أن العوام وأذهان القرائح الجامدة بينهم صفات مشتركة لا تتغير بتبدّل الحال والمقام. فجهلاء ذاك الزمان هم جهلاء هذا الزمان ولكن بزيادة جوال وحساب على «النت». فلا تتسع عقولهم لأكثر من الأشياء الساقطة والأمور التافهة. فتجذبهم لأنهم يفهمونها ويستطيعون التواصل معها من دون الشعور بالحرج والنقص أمامها. ثم ينبت الزمان للجموع من يعزف على أوتارها من منافقين ومرتزقة لا تخلو منهم ورقة من روايات التاريخ. بوصف دقيق لتبجحهم في صعودهم لمدارج لم يكونوا أهلاً لارتقائها. ولأنهم مرتزقة يعيشون تمويهاً باطلاً فتراهم في قلق دائم من انكشاف أمرهم والنزول إلى الدرجة التي يستحقونها. فإذا رغبت في معرفة أسمائهم فارصد من يبالغ في رد فعله تجاه الهجوم الذي يتعرض له. ودوّن كل افتعال لقضايا شعبوية تزيد من أتباع العامة. ثم ابحث عن من انشغل في إشعال نيرانها كلما بردت. فإذا نُسب إلى بعض الأعمال والقرارات والشخصيات قدر وافر من الأهمية وهذا صحيح، إنما تفسير هذه الأهمية يكون غير صحيح. ذلك أن الأحوال والأحكام والملابسات هي التي أكسبت القيمة والنماء، بتهليل العامة، ولكن لو تبدلت العلل والأسباب لتغير كل شيء وأولها الوجوه. فالشهرة لم تكن عنها في ذاتها، بل لما كان حولها من الظروف والحوادث. يقول الرافعي: «شر النفاق ما داخلته أسباب الفضيلة. وشر المنافقين قوم لم يستطيعوا أن يكونوا فضلاء الحق، فصاروا فضلاء بشيء جعلوه يشبه الحق». [email protected]