تُشير ملامح المرحلة المقبلة، في إطار العلاقة المستقبلية بين التلفزيون ومشاهده، إلى أن التلفزيون يسعى في شكل دؤوب للتعرّف أكثر إلى هذا المشاهد، بما يتضمّن معرفة مزاجه وأهوائه ورغباته ومتطلباته، كي يبادر إلى توفيرها، والخلاص من العلاقة الهلامية الراهنة، والتي من أدنى سماتها أن التلفزيون لا يعرف مشاهده عن كثب، ما يجعله يقذف مشاهده بما لا يريد غالباً. يدرك القائمون على التلفزيون، اليوم، أنهم لا يعرفون مشاهديهم حقاً. صحيح أن ثمة الكثير من الإحصاءات التي تشير إلى الحجم والعدد وساعات الذروة والإقبال، أو الانكفاء، ولكنها جميعاً معطيات تتعامل مع الجمهور في شكل كمّي، لا تبين ملامحه، ولا تعرف خصائصه، وهو ما يشكّل عامل قصور، يدفع التلفزيون إلى إلقاء الكثير مما لا يحتاجه المشاهد، المجهول النوع والرغبة، الأمر الذي يجعل قسطاً وافراً من المنتوج المبثوث خارج الاهتمام، وغير ذي جدوى. السؤال الراهن يمكن أن يمدّ ظلاله على أطياف واسعة من طراز: ما معنى أن تبث الشاشة إعلانات عن أحدث السيارات، إذا كان هذا المشاهد ليس من هواة النوع؟ ولماذ تُبثّ له إعلانات ترويجية عن أفلام سينمائية، إذا لم تكن هذه من اهتماماته، بل كان من عشاق مباريات كرة القدم، مثلاً؟ وما بالك بإتلاف الوقت في الترويج لعطور، أو أزياء، أو أثاث، فيما هي آخر شأن يأبه له المشاهد؟ المستقبل التلفزيوني الذي يقترب حثيثاً، ويشتغل عليه خبراء سراً وعلانية، ينطوي على اشتغال جاد وجدّي في الانتقال من الاستقراء الكمّي إلى المعرفة الكيفية، ما يؤهل التلفزيون لقراءة مشاهده، وتحديد ميوله واهتماماته، وبالتالي تلبية متطلباته، بما هو أقرب إلى الدقة التي تتوافق مع مزاجه وثقافته ورغباته وحاجاته. يوماً ما، نراه قريباً، سيتمكّن التلفزيون من معرفة أيّ مشاهد يُخاطب. حينها سيبثّ له ما يريد، أو يعتقد أنه يريده. لا يعدم الباحثون وسيلة للاقتراب من ذلك. ربما يكون الاشتراك الخطي أكثر الأمور توفيراً لتحقيق ذلك، إذ يعتني القائمون على القنوات التلفزيونية ذات الاشتراك الحصري، عبر الكابل، برصد جمهور المشاهدين، والانتباه إلى طبيعة البرامج التي يشاهدون، والوقفات التي يكررون، سواء أمام نشرة أخبار مختصة بالسياسة أو الاقتصاد أو الرياضة، أم توقفاتهم المُعتادة لمتابعة برامج من هذا النوع أو ذاك. هنا، لن تعود البيانات رقمية إحصائية كمية، تكتفي بالقول إن هذا البرنامج يتابعه هذا العدد من المشاهدين! سننتقل إلى بيانات إحصائية كيفية، تُوضح أيّ نوع من المشاهدين هذا، أو ذاك، بالتالي يعمد التلفزيون إلى موافاته بما يتوافق مع الأثر الذي تركته متابعاته، فإن أدرك التلفزيون أن هذا المشاهد ممن يهوى الرياضة، فلن يوافيه بإعلانات الاقتصاد، وإن كان ممن يهوى الأفلام، فلن يقترح عليه أمور السياسة. ذات يوم قريب، سيكون التلفزيون على معرفة حصيفة بمشاهده، ويكفّ عن البلاهة.