وجّه الشاعر العبسي عنترة بن شداد قبل 1400 عام سؤالاً استهل به معلقته الشهيرة، حينما قال: «هل غادر الشعراء من متردم/ أم هل عرفت الدار بعد توهم»، لكن سؤاله لم يجد إجابة حتى الآن لدى معظم الشعراء، خصوصاً بعد انحسار مد الشعر الشعبي عن الكثير من المواضيع الشعرية، واختفاء الشاعر «حامل القضية» عن الساحة، بسبب استغنائه عن لسان المجتمع واكتفائه بلسانه الشخصي. ومع وفرة الإنتاج الشعري لدى الشعراء الشعبيين وكثرة القنوات التي تتيح للشاعر بث ما جادت به قريحته، إلا أن «أنانيته» هزت صورة بنات أفكاره لدى المتذوق، ما جعل أبيات الكثيرين من الشعراء تمر مرور الكرام على الذاكرة من دون أن تنصب خيامها فيها، على عكس ما كانت تفعله قصائد من سبقهم بالشعر النبطي، الذين لا تزال تجري سيول أبياتهم على شفاه عشاقهم. الظهور الإعلامي لشعراء مبدعين من دون هدف، أو قضية تحملها أبياتهم، جعل الشعر الشعبي في الوقت الحالي أشبه ب «وعاء» جميل لكنه فارغ، ليفضي بالأعمال الشعرية إلى هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف، كما يراه الناقد والإعلامي علي المسعودي. وقال المسعودي ل «الحياة»: «الرغبة في الظهور الإعلامي وكثرة القنوات الإعلامية في مختلف أشكالها خلقتا حالة من الضياع لدى الشعراء، في ظل عدم وجود مركز للعمل الإعلامي، وجهة معينة تكون منبراً للإبداع، الأمر الذي أضاع المبدعين من الشعراء وجعلهم في حالة تشابه في ما بينهم، إضافة إلى خلو المنبر من شاعر أنموذج ينظر إليه زملاؤه ليسيروا على وهجه»، مشيراً إلى أن شعراء الساحة الشعبية في الوقت الحالي أثبتوا أنهم «لا شيء» في وجود العالم المتحرك. وأضاف أن غالبية الشعراء يكتبون قصائد «الغزل» و«المديح»، «حتى وإن وجدنا شعراء يكتبون عن قضايا الأمة، نجدهم يكتبون بيتين لغرض تسجيل الوجود بالكتابة، ولكن الحقيقة أثبتت فشلهم الذريع، أين شعراء الوقت الحالي من حديث (اهجهم فإن روح القدس تؤيدك)؟ الشعراء الآن لا يؤيدون روح القدس، هم يؤيدون قناة فضائية، أو شاعراً يبعث لهم هدية، ولكني أستثني من هذا الهباء الموجود قصيدة خالد العتيبي (عمر عمر عمر)، ولا أرى أية قضية أثبت خلالها الشعراء قواهم». وتساءل المسعودي عن وجود الشعراء في قضايا المجتمع الحالي، وعدم ظهورهم والتطرق إليها، «عدد منهم كان ظهورهم لأخذ الصور مع الفنانين وكبار المسؤولين، وصور رحلاتهم في الفنادق والطائرات»، مستغرباً من عدم مشاهدته أي شاعر ذهب إلى مراكز التوتر، أو تحدثهم عن قضايا الأمة العميقة، ما جعل وجودهم في المجتمع أمراً هامشياً. وتابع: «بغض النظر عن تأييدي للشاعر أحمد سيّار من عدمه، أثناء تحدثه بلسان المعارضة الكويتية، إلا أنه كان أنموذجاً في حملة لقضية والنضال من أجلها، فمثلما تحدث أحمد سيار بلسان المعارضة يجب أن يكون هناك شعراء يتحدثون باسم الدين والتربية والمرأة والفئات المغلوبة على أمرها». وتخوّف المسعودي من اندثار الشعر الشعبي مثل شقيقه «الفصيح» بعد خلو الساحة من الشعراء حاملي القضايا المجتمعية، مثل البردوني وغيره من شعراء الفصحى، الذين أفضت الحال بعد غيابهم إلى أن يحوي الفن الشعري أسماء لامعة وبراقة لكن بمحتوى أجوف. ويرى الشاعر والناقد مسفر الدوسري أن اختلاف وضع الشعراء «أصحاب القضية» وحاملي هم المجتمع، يعود إلى اختلاف قنوات بث الشعر، التي أصبحت عبر الصحف والمجلات وبرامج التواصل التي تخضع لسلطة الرقيب، ما حدّ من تعرض الشاعر للقضايا التي من الممكن أن تسبب له مشكلات مع السلطات، إضافة إلى أن الشاعر في الماضي كان أشبه بوسيلة إعلام ينقل الأحداث. وقال الدوسري ل «الحياة»: «وجود وسائل الإعلام التي أصبحت تغطي وتنقل أكثر مما يقوله الشاعر بمراحل حيّد الشعراء، إلا أن ذكاء الشاعر في تناوله للقضايا من زوايا أخرى غير التي طرقها الإعلام قد يمكنه من تناول الأحداث بطريقة مختلفة». وأضاف أن الشاعر عندما يتحدث عن همومه الشخصية يتحدث عن همٍّ شاركه فيه الكثيرون، «الشعر فن أناني في النهاية، وطبيعة هذا الفن تختلف عن غيره من الفنون الروائية والتشكيلية، كونه شخصياً، فالموضوع الذي يطرقه الشاعر ويمثل شخصيته، يشاركه معه الكثيرون في الهمِّ نفسه، وإلا فلن تكون هناك قصيدة». ونفى الدوسري أن يكون لأنانية الشعر وشخصنته دور في عدم رسوخ أبيات الشعراء في أذهان المتلقين، معللاً ذلك بعدم استناد المتلقين إلى حفظ الأبيات الشعرية في أذهانهم، واعتمادهم على ذاكرة الهاتف المحمول. وزاد: «هناك شعر جميل يُقرأ، لكننا لم نعد نعتمد على الذاكرة كما هي الحال في الزمن الماضي، الذي كانت فيه وسيلة نقل الشعر هي الحفظ».