أنقذنا الوزير جبران باسيل من الكلام المزدوج حول الطائفية والعلمانية في السياسة اللبنانية، فحدد لنا أن وزارة الطاقة التي تبيض ذهباً أسود وأصفر هي وزارة سيادية للمسيحيين ولا يمثل المسيحيين الحقيقيين الوازنين إلا شخصه المتربع عليها منذ سنوات. وهذا كلام جديد في فنون السياسة اللبنانية وجنونها. لكن الوزير الشاب كشف المستور وكان صريحاً أكثر من غيره. فقد كانت القاعدة التي ما برح السياسيون اللبنانيون يرددون أنهم يعملون بها منذ ما قبل الاستقلال هي معاداة الطائفية، وأنها أكثر الأمور الممجوجة لديهم، لكنهم اضطروا، لأسباب خارجة عن إراداتهم، إلى جعل «الميثاق الوطني» قائماً عليها، وإن لفترة محدودة، تصفو فيها النفوس ويقترب الشقيق من الشقيق. ولا يعني هذا أن المجتمع بريء تماماً من المرض الطائفي إلا أن الطبيب كان، على ما يبدو، يداوي الداء بالداء أكثر مما كان يداوي الداء بالدواء. واحتار الناس بين النظرية والتطبيق عند معظم الاتجاهات السياسية. فالكل، تقريباً، يقول بالعلمانية، بما في ذلك ما كان يُعرف بالأحزاب الإيديولوجية، إلا أنها في غالبيتها كانت تنحى إما منحى مناطقياً يحددها ويحدها طائفياً ويفرض عليها اللعبة الشعبوية المعروفة، وإما أنها كانت تسير على نهج طائفي ظنته مستتراً عن فكر وبصيرة المواطنين. فأصبح لدينا أحزاب علمانية «مسيحية» وأحزاب علمانية « إسلامية». وتطور الأمر لنصل إلى التعامل عملياً أيضاً مع أحزاب مذهبية - علمانية بالطبع - من كل اتجاه ومشرب وعائلة وجناح عسكري عشائري! وقد مكر النظام السياسي اللبناني مكراً شديداً. فأنت لا تستطيع أن تشير إلى سياسي لبناني يعلن أنه يمثل طائفته حصراً، وأنت في نفس الوقت تعرف أن الطائفية هي المحرك الأساس للنظام السياسي ومعظم الاجتماعي اللبناني. فإذا طالب نائب «علماني» مسلم بإعطاء حق الجنسية اللبنانية لأولاد الأم اللبنانية المتزوجة من غير لبناني، قام نائب «علماني» مسيحي، بالمقابل، برفض الاقتراح على أساس أنه يمهد لتوطين اللاجئين الفلسطينيين فكثير من اللبنانيات المسلمات متزوجات من فلسطينيين. أما معظم اللاجئين الفلسطينيين المسيحيين فقد جرى تجنيسهم لبنانياً دون ضجة منذ عقود وهم فاعلون في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العليا. بالمقابل، يتخوف المسلمون العلمانيون من مطالبة المسيحيين العلمانيين بإعطاء حقوق المواطنة للمغتربين لأنّ المغتربين المسيحيين يفوقون المسلمين عدداً وعدة! وعندما يتحدث بعضهم عن ضرورة التمسك بالمناصفة السياسية التي أقرها اتفاق الطائف يأتي الرد بأن المناصفة العددية غير تمثيلية لأن العددية تحجب النوعية في الحالة اللبنانية. أما الطرف المقابل فيذكر أن المناصفة مكرمة من مكرماته بينما الديموغرافيا تحتم المثالثة لا المناصفة. أما على الجانب الثقافي، فإنك إذا استعرضت الصفحات أو الملاحق الأسبوعية غير السياسية في أكثر من صحيفة لبنانية لعلمت أن الحس الثقافي والذوق الفني المرهف مرتبط بطائفة راقية بعينها بينما البدائية الثقافية والأدبية والوحشة والتوحش الفني لا يبارح طائفة أخرى. النكاية كمفتاح سياسي كان المؤرخ اللبناني الراحل كمال الصليبي يقول إن سياسات الطوائف في لبنان هي سياسات نكاية: طرف يطلب شيئاً فيرفض ذلك الطرف الآخر ويطلب عكسه لا لأنه يريد ذلك فعلاً، بل نكاية بالطرف المنافس. والسياسات اللبنانية الحالية خير دليل على ذلك: كان الناطقون باسم المسيحية السياسية يتهمون المسلمين بأنهم معادون للغرب دون اهتمام بالتحديث والحداثة، وكان الناطقون باسم الإسلام السياسي يقولون للمسيحيين أنهم متحالفون مع الغرب دون وازع من وطنية أو حس قومي. انقلب الأمر اليوم فأصبح المسلمون اليوم متهمين بصداقة الغرب والمسيحيون متهمين بمعاداته، لكن النكاية منتعشة عند الطرفين. مع ذلك، لم يكن اغتيال الرئيس رفيق الحريري، مثلاً، عملاً طائفياً محلياً فحسب، بل عملاً سياسياً يتعلق بالأوامر الطائفية الإقليمية التي صدرت لتصفيته. إذ كيف يمكن لأحد أبناء طائفة معينة أن يلعب الدور الأبرز في الوطن اللبناني والجوار حيث لكل طائفة سقف حركة لا يسمح لها بأن تتخطاه لا لبنانياً ولا إقليميا. وربما كان هذا هو السبب الأساس في اغتيال الرئيس رياض الصلح «العروبي» المشرب أيضاً قبل أكثر من نصف قرن. أما اتهامه بأنه كان وراء إعدام قائد الحزب السوري القومي فقائم على الشبهة لأن اللجنة التي قررت هذا القرار كانت برئاسة رئيس الجمهورية، بشارة الخوري لا برئاسة رئيس الوزراء المحدود الصلاحيات بوجود رئيس الدولة وقتها. ولم نسمع باتهامات توجه إلى الرئيس بشارة الخوري، بل على العكس هناك سكوت شبه تام عن دوره في الموضوع وعن دور المحرك الإقليمي الأساسي المعروف وهو قائد أول انقلاب عسكري في دمشق حسني الزعيم. ومن مهازل القدر أن بعض الذين ارتكبوا جريمة اغتيال الرئيس رياض الصلح وبعض الذين فجعوا بها حملوا مع الوقت نفس الثقافة السياسية المتحالفة مع ديكتاتورية الإقليم والتقوا من دون وعي أو قصد على الثأر النفسي وتنفسوا الصعداء لغياب الرئيس الحريري عن الساحة السياسية اللبنانية وكأنه كان نافسهم على زعامة فائتة على رغم أن الحريرية - إذا صحت التسمية - كانت في جزء منها على الأقل - استمراراً أو عودة لسياسة رياض الصلح الميثاقية التي كانت تؤكد الشراكة الإسلامية - المسيحية في إدارة لبنان ومصالحه. لكن شخصية كل من الزعيمين كانت من القوة والتأثير بحيث سرقت الأضواء وأثارت الفزع والغيرة غير المبررة واقعياً عند المتشددين المحليين وبعض مراكز الجوار في الإقليم. وكأن اغتيال الرئيس رفيق الحريري كان اغتيالاً للرئيس رياض الصلح مرة ثانية! الطائفية الإقليمية أما الطائفية الإقليمية فتختلف في أساليبها في المشرق من مصر إلى العراق مروراً بسوريا حيث اكتشفنا ما كنا نشتبه به: بلطجية النظام هنا وشبيحة النظام هناك يقومون بإحراق الكنائس والمساجد وتأجيج الصراعات الطائفية من وراء ستار بينما تعلن الحكومات أنها لا تألو جهداً في حماية الأقليات من المجموعات السلفية والقاعدية والداعشية التي تقوم هي نفسها بتمويلها وتسليحها لتخويف الأقليات، ولو حاكمة، من الغالبية ولو محكومة وبالعكس وجعل المواطن عدو المواطن كي تظل تمثل دور الإطفائي المزعوم في مجتمع يُدفع بعضه إلى كره بعضه الآخر دفعاً إضافياً لا ضرورة له. وكيف يمكن أنظمة المشرق من طهران إلى بيروت أن ترفد بعضها بعضاً إذا لم تعبئ الطبقات الشعبية طائفياً وترسلهم للقتال من جبهة إلى أخرى وهي التي تجاهر بأيديوجيات وطنية وقومية علمانية لا تسمح إلا بالتركيز على المصير والتاريخ والمستقبل الواحد المشترك؟ أصبح الاحتراب الطائفي، إذاً، ضرورة للأنظمة العربية التي فقدت كل شرعية. فهي تخلت عن أية إستراتيجية خارجية كانت أم داخلية سواء في السياسة أو في الاقتصاد، أو في العدالة الاجتماعية. ولقد قيل بعد حرب 1973 إنّ العواصم العربية التي ساهمت في الحرب ستركز بعد إعلان سلامها أو استسلامها للعدو «المهزوم» على الاقتصاد فتنعشه وتنعش الشعب الذي عانى أيما معاناة من حروب فرضتها عليه أيديولوجيات عروبية مفوتة. وكانت أن «سكتت المدافع» فعلاً على حد ما كتب الصحافي المصري الراحل محمد سيد أحمد ( ووُزع كتابه من قبل السلطات بثمن بخس على نطاق واسع في القاهرة وغيرها من مدن الكنانة) ولكن من جهة واحدة إذ سمحت لإسرائيل بإطلاق مدافعها على كل الجبهات الساكتة من العراق إلى فلسطين إلى لبنان. أما الاقتصاد، فبدلاً من إنعاشه فقد تم تدميره عبر إلحاقه - عبر الخصخصة الخاصة جداً - بالعائلات الحاكمة وبيوت المال العالمية. وأُلغيت شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية - على عدم جديتها سابقاً - لمصلحة البلطجية والشبيحة على رؤوس الأشهاد ودون أي استحياء. واكتشفنا أنّ أعضاء هذه التنظيمات المسلحة يعدون بعشرات الآلاف ويمثلون جيوشاً رديفة لكتائب النظام المنتخبة انتخاباً دقيقاً. الغرب الطائفي أيضاً ولم يكن الغرب بعيداً من هذه السياسات فعلمانيته التنويرية لم تمنعه من استخدام الأدوات الطائفية خارج حدوده بخاصة في بلادنا. فوفق المثقف السوري الكبير الراحل انطون مقدسي فإن برجنسكي ، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس كارتر، أعلن في الثمانينات صراحة وفي وصف لسياسة بلاده في أفغانستان « إننا - يقصد الأميركيين - سنلعب من الآن وصاعداً ورقة الطائفية». (الحياة 23 أيار 1994، ص. 16). وكان أن استولد أداة سياسية بشكل ديني أُسميت» القاعدة» التي يُتهم المسلمون اليوم بأمومتها. أما وسائل الإعلام الغربية فتركز حالياً على ان الصراع في الإقليم هو صراع شيعي- سني مذهبي لا دخل للسياسة فيه بهدف نزع هذه السياسة عن الصراعات لتبرئة الغرب وأبلسة العرب والمسلمين في المنطقة. فالمسألة المطلوب إشاعتها هي مسألة لا عقلانية الشعوب وتعصبها وليس تصرفات وسياسات الأنظمة المحلية والإقليمية والدولية. وقد استخدمت الطائفية والمذهبية استخدامات متعارضة ومتناقضة عدة. فإذا كانت قد استخدمت في الثمانينات وما بعدها للتدخل في المنطقة، فإنها تُستخدم اليوم للانسحاب من المسؤوليات الدولية والإنسانية في ما أصبح يطلق عليه «حروب الآخرين». ولم يعد قتل الأطفال وسبي النساء ليثير غضباً في محفل الأممالمتحدة أو عند منظمات حقوق الإنسان التي تتصرف إعلامياً على أساس أنها تحارب العنف الموجه ضد المرأة إذا كان منزلياً فحسب! وكان الرئيس الأميركي باراك أوباما قد أعلن في خطاب ألقاه في 31 آب (اغسطس) 2013 : « أعرف اننا تعبنا من الحروب. لقد أنهينا الحرب في العراق ونعمل على انهاء حرب اخرى في افغانستان. ولدى الأميركيين الحس الجيد لمعرفة اننا غير قادرين على حل المشكلة الدائرة في سورية بواسطة قواتنا المسلحة. ففي ذلك الجزء من العالم هناك اختلافات مذهبية قديمة في التاريخ. وقد أدى الربيع العربي إلى اطلاق قوى تغيير لا بد أن تستغرق العديد من السنين لكي تحل المشاكل التي أطلقتها. لهذا، فإننا لا نفكر بوضع قواتنا في غمرة حروب الآخرين». هكذا وبإفلاس الأنظمة المحلية والإقليمية وحتى الدولية من الفكر الجامع والأيديولوجيات الرابطة أصبحت اللعبة الطائفية هي اللعبة الوحيدة فوق الطاولة . أما ما تحتها فهو حسابات أخرى منها ماهو سلطوي ومنها ما هو عائلي ومنها هو مناطقي. وقد تجتمع كل هذه العوامل في اطار واحد يرفد بعضها بعضاً ويجمعها ما هو مصالح مالية في كل الأحوال. * مؤرخ وكاتب لبناني