يحظى «التجسس» باهتمام بالغ في الطرح الفقهي على امتداد العصور المتقدمة والمتأخرة، وعبر الإنتاج المتكاثر للثقافة الإسلامية، إلا أن انعكاساته على أرض الواقع ليست على ما يرام، وفقاً لممارسات بعض المحتسبين من رسميين ومتطوعين. يأتي «التجسس» في صميم عمل المحتسبين الذي يعملون على تطبيق الأحكام الفقهية، وإنزال المنتج الإسلامي الشرعي على الواقع بحسب مقارباتهم ومحاسباتهم الظنية والقطعية، وفي ظل الحديث المتوافر عن طبيعة عمل الهيئات والمحتسبين غير الرسميين، والإشكالات التي تنشأ بناء على طبيعة عملهم واحتكاكهم المباشر مع المجتمع، وصلتهم بمعاني المتابعة والمراقبة والملاحظة التي تستند على اجتهادهم الشخصي، ورؤيتهم الذاتية لملابسات حدث ما وظروفه الراهنة، ينبت الحديث عن التجسس، كتهمة تنفى وتثبت أحياناً في كل واقعة على حدة. وفي هذا الصدد يرى الباحث الشرعي والقانوني عبدالله العودة أن التعامل مع قضية الاحتساب يتم تصنيفه عادة في إطار عمل المحتسبين تقليدياً، بينما موضوع الاحتساب يفترض أن يكون عملاً يتناول قضايا ذات بعد أكثر. وقال ل«الحياة»: «في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان التعبير القرآني الإسلامي عظيماً وفريداً، فهو ليس أمراً بالخير ونهياً عن الشر، بل أمر بالمعروف (من هذا الخير) ونهي عن المنكر (من هذا الشر). فالمعروف معنى أدق من الخير وأخص، كما ورد في القرآن التفريق بينهما في آية واحدة والتعبير بالدعوة عن الخير، بينما التعبير بالأمر عن المعروف في قوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)، ولذلك فإن المعروف والمنكر مرتبطان باتفاق أكثر الناس وفقهائهم على هذا النوع المعين من الخير، وعلى هذا النوع المعين من المنكر، ليتم الأمر بالأول والنهي عن الثاني. وهذا ما يوضح المقولة التراثية الشهيرة حول «لا إنكار في مسائل الخلاف» التي وإن تحفظ بعضهم على لفظة «الاختلاف». وأوضح أن الفقهاء والمفسرين عرَّفوا «المعروف» بأنه ما تعارف الناس عليه من قدر النفقة، بيد أن المعروف عموماً ليس كل ما تعارف عليه الناس بل ما تعارف المسلمون على خيريَّته، وكون مفردة «الناس» حاضرة هنا يُشعر بأهمية فهم الناس وعمومهم وأغلب المسلمين، ما يقود إلى ملاحظة الممارسات الكثيرة التي تقع في نطاق «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» الحالية، والتي تنصبّ في الأغلب داخل نطاق «الخلاف» الفقهي بين الأئمة الأربعة، أو بين كبار الفقهاء المجتهدين. وأشار إلى أن هذا النوع من الأمر والنهي أمر برأي فقهي محدد، ونهي برأي فقهي، وليس أمراً بجملة المعروف ونهي عن جملة المنكر، «المعروف من الخير هو أصول الأخلاق والعبادات والمعاملات والقواعد الشرعية المعروفة والأعمال الدينية المعروف خيرها، وليس الخلافات الفقهية الدقيقة، فتحويل شعيرة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» إلى أمر برأي فقهي محدد هو شكل تقليدي للتعصب للرأي، والدعوة لترجيحات شيوخ من دون آخرين، بغض النظر عن ذلك الرأي، هل هو أمر بالاختلاط أو نهي عنه.. أمر بتغطية الوجه أو كشفه.. أمر بلبس شكل معين للعباءة أو نهي عنه.. أو غير ذلك». وشدّد على أن قضية التجسس بالتحديد «مثال مهم، لأنه بذاته أمر منكر متفق على كونه محرماً، فإذا عرفنا أن التجسس نفسه منكر عظيم كما قال الله في القرآن «ولا تجسسوا»، فممارسة التجسس ذاتها أمر يجب الاحتساب عليها وإنكارها ومحاربتها، ولا يصح حتى في الشريعة ممارسة التجسس لإنكار منكر معيّن، لأن الله لم يجعل ممارسة الشريعة «وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في ارتكاب محرّم مجمع عليها. من جهته، أكد الباحث الشرعي عبدالعزيز الغنام ل«الحياة» أن الغاية السليمة كإزالة منكر ما، لا تسوغ الوسيلة المحرمة كالتجسس أو الدخول بلا استئذان للشقق والبيوت، ولفت إلى أن بعض المحتسبين يتحمس بالتجسس ليزيل منكراً ما، فيرتكب منكراً أعظم». وطالب بتوضيح مفهوم الستر لدى المحتسبين، إذ إن أخبار الأهل لا تعد ستراً، خصوصاً في القضايا المتعلقة بالنساء. واستشهد بحديث «من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة»، ونوّه إلى أن الستر قد يكون سبباً لهداية الآخرين، في حين قد يكون إخبار الأهل بداية حياة سلبية للعاصي أو العاصية.