تشهد أوكرانيا اليوم ثورة كلاسيكية تختلف عن الثورة البرتقاليّة (2004-2005) التي كانت أقرب إلى انتفاضة. ورفعت الانتفاضة هذه لواء الحفاظ على القانون ومشروعيّة الدولة. والثورات الكلاسيكيّة لا تحمي «الشرعيّة» بل تدعو إلى الانقلاب عليها. ولا ريب في ان فيكتور يانوكوفينش هو اليوم الرئيس الشرعي للبلاد. وهو منتخب شأن حكام المناطق الذين تقتحم مقارهم (الحكام) ويطردون منها. وهذه انتهاكات تخالف القانون. لكن المعارضة تزعم انها تمثل الشرعيّة لأنها تعبّر عن إرادة الناس. ولم تذلل الثورة البرتقاليّة المشاكل الأساسيّة التي اصطدمت بها. وبقيت الخلافات على حالها بين غرب أوكرانيا وشرقها، أي بين القسم الأوراسي صاحب التقاليد السوفياتيّة والقسم الطامح الى أوروبا، وبين النظام الفاسد والشعب المنهوب. ولم تنعقد ثمار مرحلة حكم فيكتور يوشنكو. أمّا حكم يانوكوفيتش، فلا شك في انه فاسد. فهو وزع الغنائم على حاشيته والمحيطين به. ولم ينقشع الغموض عن نتائج الحوادث الأخيرة، ولكن إذا وقع المعارضون في الفخ الذي نصبه لهم يانوكوفيتش، اي اقتراح مشاركتهم في الحكم، لا محال من تفشي الفوضى. قد ينساق المعارض ارسيني ياتسينيوك الطموح وراء الطمع الشخصي، ويقبل منصب رئاسة الحكومة المعروض عليه وهو لا يتمتع بشعبية فيتالي كليتشكو الذي لم يعرض عليه سوى مقعد ثانوي وحقيبة «الشؤون الإنسانيّة» في هذه الظروف السيئة. وتضارب الطموحات والأطماع قد يودي بالمعارضة إلى حتفها. ان الحل الوحيد والسلمي اليوم للخروج من الأزمة هو إعلان موعد الانتخابات النيابيّة والرئاسيّة المبكرة، وتشكيل حكومة انتقاليّة وتعيين شخصيّة محايدة على رأس وزارة الداخليّة. وفي ضوء الخلافات الحادة بين المناطق الأوكرانيّة لا بدّ من إجراء إصلاحات دستورية تطاول نظام الحكم، وربما تقر الانتقال إلى الفيديرالية أو الكونفيديراليّة وانتخاب برلمان من مجلسين مع إعطاء المناطق حقّ انتخاب حكّامها. ويبدو ان الكرملين الروسي انتقلت اليه عدوى البلاهة من نظيره الأوكراني. فمنذ شهرين، يردد الإعلام الروسي لازمة واحدة ويروي قصة المؤامرة الغربية ضد روسيا في أوكرانيا، في وقت تبدو الحوادث في هذا البلد داخلية. وواشنطن تتنصل من دعم المعارضة دعماً قوياً. لكن يبدو أنّ الإعلام والكرملين يرميان الى زرع فكرة في عقول الروس مفادها أن بلادهم تتصدى للهجمة الأميركيّة- «الأطلسية» على الجبهة الأوكرانية. وهذه الكذبة البلهاء مصدر خطر على روسيا نفسها. فإذا آلت الأمور في أوكرانيا إلى تنحي يانوكوفيتش، ستواجه روسيا صعوبات في التآلف مع الحكومة الجديدة. لكن السيناريو الأسوأ هو استمرار هذه الفوضى. حينها سيطالب الرأي العام الروسي حكومته بنجدة الروس في المناطق الشرقيّة من أوكرانيا ومساعدتهم على الانفصال في سيناريو شبيه بحرب جورجيا 2008. وتفوق خطورة انزلاق موسكو إلى دعم هكذا حركات انفصالية، خطورة انفلات الأمور في أوكرانيا. ويترتب على الانزلاق هذا قطع كل العلاقات الروسية بأوروبا والولايات المتحدة. وهذه السياسة تقوض الاقتصاد الروسي المتأزم وتنزل عليه نزول الكارثة وتؤذن بنهاية رابطة الدول المستقلة. لذلك، حريّ بروسيا النأي عن الأحداث الجارية في أوكرانيا، والتزام الحياد التام، من أجل بناء علاقات براغماتية مع الحكومة الأوكرانية المقبلة قوامها المصالح التجارية المشتركة بعيداً من المصالح الشخصيّة. * كاتب ومحلّل، عن «فيدوموستي» الروسيّة، 26/1/2014، إعداد علي شرف الدين