كان الطريق الواصل تقاطع «آخر الخط» بالمطار يمتد إلى ما لانهاية. وبدا اللواء 80 المتصل بالمطار طيطان أسطوري يجثم على «أمل» المناطق المحررة. وكانت عربات الدوشكا وسيارات المقاتلين تخترق الطريق ليبتلعها مجهول مرعب. كانت نظراتهم حائرة كأطفال ضائعين، ولم أستطع أن أحدد إلى أي فصيل ينتمون. فقط العيون الذاهلة هي الهوية التي تشي بهم. خوف وقلق ينسكبان على ذرى البيوت التي لن يروها ثانية. ومن وراء الدوار عجنت أحياء طريق الباب كأنها أمعاء متلوية على بعضها. ذرفت السماء قطرات مطر ناعمة امتزجت مع رائحة بارودٍ كثيف. ونفذت رائحة الدم الآتي من اللواء وسارت بين الأزقة كأنها شرايين تضخ بين البيوت قدراً صارماً يزيد من تكورها على نفسها. وضع الخال كومبيوتره على حضنه، ليسخر من هذا العالم المتمدن على طريقته. يرخي خطام الكلمات الشائنة ويقذفها على كل من تخاذل أو خان. لقد كانت وسيلته في تزجية الألم ودرء القذائف التي تصفر من فوق رأسه. الخال في الغالب لقب يتناقله الناس لا لسبب واضح، ربما كان اسمه على السكايب هكذا: الخال. وربما لأن الجميع بحاجة إلى كبير يكون بمثابة الخال حين يلجأون إليه، الخال الذي يعرّي حقيقة الجميع بكلماته البذيئة. على مسافة عشرين متراً ارتفع بخار القهوة الصباحية التي أعدها بلبل كأنه في صباح عادي من صباحاتهم المليئة بعبث طفولي لا ينتهي. التف الأصدقاء الأربعة حول السراج المطفأ وشُربت القهوة بصمت وقد رموا السخرية في فراشهم الدافئ الذي أقضّه سقوط صاروخ سمّر جفونهم في المقل المترقبة. شُربت القهوة بصمت وكأنما يشربونها حداداً على الحي. فوق التلة التي كانت ترصد سليمان الحلبي. نظر أبو يعرب نحو الطرف الآخر من المدينة وهو يراقب سقوط القذائف وارتفاع سحب الدخان الكثيفة. ومن ورائه كان الصمت يشي بحشد كبير لا ينتهي. لم تطلق طلقة واحدة منذ أسبوع. انهم ينتظرون الإطباق على اللواء لينقضوا على كرم الجبل. ترى كم ستصمد هذه الجبهة؟ أسئلة المقاتلين هي أصعب الأسئلة وأكثرها فتكاً بالروح! نظر نحوي وابتسم ابتسامته الدافئة التي زادت ابيضاض ذقنه الناعمة، ومن شاربيه الكثّين سقط حزن ثقيل. ربط «جمدانته» على رأسه استعداداً للموت، وزمّ مقلتيه بحزم وهو يراقب سقوط المدينة وهمس قائلاً: حلب تستحق كل هذه التضحية. الموت في نهاية النهار يجلس إلى جانبي قرب السراج الزيتي الذي ينير العتمة الحالكة للمدينة، نراقب معاً هشاشة النار التي ترقص من أثر الهواء البارد الذي يجول في المكان. نحصي الجثث التي سلبها. قال لي في نهاية هذا النهار الدامي إن الموت ليس هيئة واحدة، بل هيئات كثيرة لا تنتهي وغالباً ما تتخذ شكل صاحبها. كان الخال والأصدقاء الأربعة يضحكون وأنا أخبرهم إنني اكتشفت أن كلاً منا يحمل موته إلى جانبه كصديق أو ربما كحارس. واستمرت القذائف بالسقوط والمقاتلون بالركض نحو اللواء 80، فيما الخال والأصدقاء يضحكون على الموت الذي كان يجلس إلى جانبي متربعاً، نرسم على طرف الورقة ممراً سحرياً يصل سراديب الحياة بالطرف الآخر، انه يتحدث لغة غريبة لا أستطيع وصفها، لنقل عنها الغيب. رسم لي على طرف ورقتي شكل الجسر المعلق الذي تعبره الأرواح، مقابل سيجارة حمراء كان يرغب في أن يدخنها منذ مدة طويلة. هذا ما ستصفونه حتماً بالجنون أو الهذيان، الهذيان في زمن الحرب.