الجدل في الجزائر، وجوارها الإقليمي، لا يدور حول سياسة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بل حول متاعبه الصحية. ولولا أنه أفلح في وضع بلاده على سكة الوئام الداخلي، وإن لم يكتمل، لما تمكنت الجزائر من تدبير فترة دقيقة مثل هذه بأقل ما يمكن من الصعوبات. فثمة إقرار بأن بوتفليقة طبع ولاياته ببصمات لا تنكر في جلب الاستقرار الغائب. حين كانت الأنظار تشرئب على غليان الشارع العربي الذي اجتاحته موجة غضب عام، كان الجزائريون يضعون أياديهم على قلوبهم. وهم يستحضرون ملامح العشرية الدموية التي اقتلعت جذور السلم والتعايش والإخاء تحت سقف البيت الواحد. وربما بسبب تداعيات تلك الفترة القاسية انكفأ الجزائريون يحتسبون الأيام التي لم يكن ممكناً فيها للعامل أن يذهب إلى مصنعه والتاجر إلى دكانه والموظف إلى مكتبه والطالب إلى جامعته، من دون خشية أن يتعرض إلى الأذى والمكروه. لم تكن النيران المستعرة تفرق بين طينة الحطب القاتل والمقتول. ولم يكن التفكير ينصرف إلى البحث عمن أيقظها بقدر الانشغال بإطفاء لهيبها الذي خمد مثل براكين، تحتاج دائماً إلى الرصد واحتساب حركة الارتدادات. ولعله لهذا السبب استأثر هاجس السلم والاستقرار بالحيز الأكبر من الاهتمام. حتى أن المشروع المجتمعي لم يعد موزعا بين تصورات متباينة، وإنما استقر عند ضمان حد مستساغ من السلم الأهلي الذي يفرض السيطرة على المشاعر والنزعات. وتمكن الرئيس بوتفليقة، في هذا الجانب تحديداً، أن يكون أول رئيس مدني منتخب يجلب لبلاده ما افتقدته من استقرار، إلى درجة أن خصومه المعارضين يقرون بالجهود التي بذلها للخروج من النفق. لا بأس في غضون ذلك أن يؤاخذ عليه خصومه ما يعتبرونه تدبيراً اتسم باختلالات وتجاوزات، فالتدبير لا يكون إلا في نطاق امتلاك مقومات مشجعة بالنسبة لواقع الدولة، وهذه قضية قابلة للجدل، كما في أي صراع بين الحكومات والمعارضات، يحتمي عنده كل طرف بما يعتبره ممكنا في عالم المستحيل. غير أن المؤاخذات القابلة للتشريح على محك التدبير العقلاني للشؤون السياسية، لم تعد جوهر المشكلة، بل إن تشخيصاً علمياً لمتاعب بوتفليقة الصحية هو ما يدفع إلى التساؤل إن كان ترشيحه لولاية رابعة وحيازته ثقة الناخبين سيحسم المشكل، بخاصة أن الأعراض الصحية تفوق الأعراض السياسية في تأثيرها وتداعياتها. ولم تكن البلدان العريقة في التقاليد الديموقراطية لتضع المواصفات الطبية كشرط أساسي لدخول عالم القيادة السياسية، لولا إدراكها أن الدول كما الأشخاص يتأثرون بنزلات البرد والحمى التي تقعدهم عن أداء الواجب إلى حين. كما لا تتساهل الديموقراطيات الغربية مع الكذب وإخفاء الحقائق، فإنها ترفض التستر على الواقع الصحي للقادة، ولم يتعرض الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران لانتقادات أكثر مما وجهت إليه السهام عند اكتشاف إصابته بمرض ظل يخفيه بعض الوقت. والحال أن خليفته في النهج الاشتراكي فرانسوا هولاند لاذ بالفرار إلى الخصوصية الشخصية في ملف علاقة عاطفية تثير المزيد من الجدل، فالوضع الصحي جزء من الخصوصية الشخصية، إذ يحرص الأطباء على إحاطته بجدار من السرية والكتمان. إلا أنه ينفلت من هذا المربع ويصبح قضية رأي عام وتدبير سياسي، عندما يتعلق الأمر بهرم السلطة. أبعد من هكذا جدل أن استقرار الدول تصنعه المؤسسات وتقاليد التناوب الديموقراطي على السلطة، ودلت التجارب على أن الجزائر عاشت حقبة فراغ في كل مرة يبتعد فيها زعيم سياسي مؤثر عن دائرة الضوء. حدث ذلك بعد رحيل الرئيس هواري بومدين الذي صنع أيديولوجيا الافتتان بكل ما هو جزائري، وكان ذلك مقبولا في فترة بناء استقلال بلد خرج من أتون استعماري سعى لطمس هويته. وأحدثت استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد، أو إرغامه على التنحي بطريقة مهذبة، رجة في ترتيبات الخلافة التي قادها رموز المؤسسة العسكرية، باستثناء حال الرئيس محمد بوضياف الذي عاد من منفاه ليواجه مصير الاغتيال. في حين أن بوتفليقة استطاع أن يقتحم جدار عدم الاستقرار ليصنع واقعاً مغايراً. وعند نهاية كل ولاية يطرح السؤال: من يستطيع تنفيذ برنامج لم يكتمل. غير أن الاستفسار اليوم لم يعد يطاول البرنامج بل راعيه الذي يمكن أن تشغله متاعب صحية في النظر بعيداً إلى ما يدور حول قصر المرادية. يبقى أن عافية الأوطان من عافية مؤسساتها، بصرف النظر عن أحوال الأشخاص.