في سجل الرئيس المرشح عبدالعزيز بوتفليقة أنه مدني يحكم بلاداً وقعت تحت سطوة الجيش. بل إنه بهذه الصفة يكاد يشذ عن قاعدة فرض عليها القادمون من الثكنات العسكرية معادلة في أنظمة الحكم في المغرب العربي، مع استثناء حال المغرب نظاماً ملكياً. بوتفليقة يختلف عن الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي الذي أطاح حكماً ملكياً وأصبح بعد أربعة عقود يفاخر بأنه «ملك ملوك افريقيا». غير أنه من خلال اتجاهه نحو ولاية ثالثة تحت السيطرة يلتقي والرئيس زين العابدين بن علي الذي صاغ نظام حكم في تونس على مقاس انتخابات مضمونة النتائج. وما من شك في أن وضع المرشح الجزائري كان أقل صعوبة من طموحات الجنرال الموريتاني محمد ولد عبدالعزيز الذي يواجه مناوآت تزيد عن استسلام زعامات سياسية جزائرية إلى منطق مقاطعة المنافسات الرئاسية. ولا يبدو أن الترشح تحت مظلة مستقلة أسعف بوتفليقة في التلويح بتراجع نفوذ «جبهة التحرير الجزائرية»، فقد دخلت الجزائر منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي إلى عالم التعددية السياسية، لكنها ولجته من باب واحد نصفه موصد والآخر مفتوح. في التجربة الجزائرية أن الأبواب التي شرعت أمام رياح الديموقراطية وتغيير ايديولوجية النظام الذي كان ارساه الرئيس الراحل هواري بومدين لم تقد إلى تحولات سلسة في المشهد السياسي، وبدا أن الصراع الذي لم تحسمه الثورة الجزائرية عندما أصبحت دولة انفجر في منتصف الطريق، لذلك راهن الرئيس بوتفليقة منذ ولايته الأولى على أن تكون الفترة الممتدة بين رحيل بومدين وعودة وزيره السابق في الخارجية إلى موقع الرجل الأول بمثابة عبور نحو ضفة تثبيت الأمن والاستقرار وتكريس الوئام. خلال فترة انزوائه بعيداً عن الأضواء تعاقب على حكم الجزائر رؤساء يزيّنون صدورهم وأكتافهم بنياشين عسكرية، وكان الراحل بوضياف الإبن الشرعي للثورة الجزائرية وحده من عاد إلى الجزائر بلباس مدني يدثر شرعية تاريخية كانت البلاد في أمس الحاجة إليها، غير أن عودته بعد مفاوضات رعاها عسكريون متنفذون كانت من أجل ملاقاة مصيره وليس للتحكم في مصير الجزائر. وقد يكون الرئيس بوتفليقة أدرك أن العودة إلى قصر المرادية ليست سالكة من دون اشارات المرور التي تعين في تلمّس معالم الطريق. لذلك اختار أن يصارع خصومه خارج المربع التقليدي لطموحات السلطة. وكانت وصفته حول الوئام والمصالحة تجمع بين متناقضات وضرورات المرحلة، فالرجل الذي ارتبط اسمه طويلاً بالديبلوماسية الجزائرية التي كانت تلهث وراء موقع أكبر لجزائر الثورة والنفط والغاز سعى لجذب بلاده إلى مركز التأثير الاقليمي والاعتبار المعنوي. وكانت حربه على الإرهاب تختلف في شكلها عن المعارك السابقة لمصادر القرار، لكنها كانت تلتقي في عناوينها العريضة مع توجهات دولية زادها تشكيل تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» رجاحة لناحية النظرة إلى معركة الجزائر كجزء من صراع اكبر في مواجهة تنامي الظاهرة الإرهابية. بنصف نجاح وبنصف اخفاق استطاع بوتفليقة أن يكون الرئيس المطلوب في زمانه، ساعده في ذلك أن جيله من منافسيه توقف في منتصف الطريق، وأن معاركه لم تكن مفتوحة على كل الجبهات، فثمة قلاع سياسية واقتصادية وعسكرية لا يزيحها غير قانون الطبيعة والتطور، وأي اختيار لا بد أن ينجم عنه ضياع أو نسيان ما لم يتم اختياره في حينه. ذلك أن المطلوب اقليمياً ودولياً ومرحلياً أن تصبح الجزائر معافاة، ولا يهم أن يكون ثمن ذلك غض النظر عن هفوات ذات علاقة بالسلوك الديموقراطي. بين نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع التي بلغت ثمانين في المئة في ولايته الأولى التي أنعشت زخم الأمل، وبين نسبة المشاركة في اقتراع أمس، يكون المرشح بوتفليقة واجه نفسه ووعوده والتزاماته أكثر من خصومه. فرئاسيات نيسان (ابريل) لن تكون بطعم المفاجأة، لأنه يغلب عليها طابع الاستمرارية، غير أن معركة المترشح القديم - الجديد تجمع بين هاجس الاستقرار وضرورات التنمية، فثمة أجيال جديدة في الجزائر يعنيها أن تحظى بالثروة بعد أن اخفقت في معاودة الاعتبار لطموحاتها عبر الثورة. المشكل أن بوتفليقة يخوض رهانه وقد انقلبت معادلات الرخاء الاقتصادي ووفرة مداخيل النفط، لكن معادلات الوفاق السياسي في إمكانها أن تنوب عن جوانب من اكراهات المرحلة، وتلك قضية لا تزال في بداياتها.