بعد صراع طويل مع المرض، رحلت الممثلة اللبنانية القديرة أماليا أبي صالح (68 سنة) صباح أمس في أحد مستشفيات بيروت. وغيابها الصامت والحزين لا يشبه أبداً الحياة الصاخبة التي عاشتها، ولا الضحكات العالية التي نثرتها في المسرح والسينما والتلفزيون. هذا الغياب الذي ساهمت فيه الدولة اللبنانية، لتقصيرها في الاهتمام بمبدعيها وبأشخاص ساهموا في تأسيس مرحلة جديدة من الفن، وتخفيف وطأة الحرب الأهلية على المواطنين، يعد نكراناً للجميل الذي قدّمته «الست بدور» وأبناء جيلها الذين أغنوا المكتبة اللبنانية الفنية بأعمال لا تزال عالقة في ذاكرة المشاهدين. ومع غياب أبي صالح، تطوى صفحة أخرى من تاريخنا الكوميدي والانساني، وتسقط ورقة من ذاكرتنا الجميلة بالأبيض والأسود. قلبت «الست بدور» بعفويتها وبدانتها وخفة دمها، المعايير المطلوبة آنذاك للممثلة. فمعها لم يكن الشكل الجميل ضرورة، لأن عفويتها وتعابير وجهها كانت أهم من الخصر النحيف أو الشعر الطويل أو القوام الرشيق. صحيح أن أبي صالح كانت بدينة جداً وكانت تلقّب بطفولتها ب»حسن صبي»، لكن ذلك لم يؤثر في روحها المرحة أو طريقتها في إيصال الطرفة أو التعبير عن سعادتها بضحكات عالية أو حتى الدلع بطريقة لافتة ومحببة. أثبتت أبي صالح أن التمثيل يحتاج روحاً لا تشيخ، لا شكلاً جميلاً بلا مضمون، وأسست من خلال عملها لشخصية قادرة على الضحك والبكاء، وتقديم أعمال للأطفال والكبار في الوقت ذاته. كما أن تجربتها المسرحية الطويلة مع الراحل شوشو وتعاملها المباشر مع الجمهور، ساهما بشكل كبير في نجاحها في التلفزيون والسينما التي لم تكن تحبها كثيراً، اذ كانت تفضل الشاشة الصغيرة عليها. مرت أبي صالح بالعديد من المراحل المهمة في حياتها عموماً، لكن يمكننا التركيز على مرحلة ما قبل الحرب الأهلية وما بعدها. ولدت العام 1946 في ضهور الشوير، وعاشت حياة رغيدة وطفولة «شيطانية»، اذ لم تعرف اللعب مع فتيات سنها، بل كانت تشارك الصِبية في تسلق الأشجار والركض واللعب بالرمل والوحل. لكن هذه الحياة تغيرت مع انفصال أمها وأبيها وبدء كل منهما حياة جديدة. درست في مدرسة «زهرة الإحسان» في الأشرفية وكانت تلقّب ب»حسن صبي»، صديقتها الوحيدة في تلك الفترة كانت الفنانة هند أبي اللمع التي عادت والتقتها في تلفزيون لبنان. ساهم انتقال عمل والدها إلى اللاذقية في شركة للنقل البحري العام 1955 في إبعادها عن محيطها وأصدقائها ومدرستها. وبعد دروس خصوصية في اللغة الايطالية، انتقلت أماليا إلى مدرسة للراهبات في مدينة إيطالية قريبة من ميلانو اسمها بريشيا، فأحبت تلك البلاد وما فيها. قلبت إيطاليا حياتها وحدَّدت مصيرها بعدما فتن برقصها صاحب فرقة فنية جوّالة متخصّصة في تقديم العروض الترفيهية لجنود القواعد العسكرية الأميركية في أوروبا. رضي والدها بالتحاقها بالفرقة، وسافرت إلى كلّ أنحاء أوروبا وقابلت داليدا وصوفيا لورين وغيرهما من المشاهير. كانت تتردّد إلى لبنان بين الفينة والأخرى لزيارة والدتها، وفي 1964 بدأت العمل في التلفزيون الرسمي والمسرح الهزلي في لبنان، فشاركت في برنامج أبو سليم «نادي الهواة» ومثّلت دور فتاة إيطالية لا تعرف العربية، ومن شدّة ما أحبّها المشاهدون شاركت في البرنامج ثلاث مرات. وعملت في برنامج «حكمت المحكمة» بإدارة المخرج الياس متّى العام 1965. استهواها عملها الجديد على رغم الفارق الشاسع بين ما كانت تكسبه في إيطاليا وما تحصل عليه في لبنان. مع شوشو لم تكتف «الست بدور» بالعمل في التلفزيون، بل تعرفت الى الفنان شوشو وقدّمت معه أعمالاً مثل «أستاذ شوشو» و»فرقت نمرة» و»كافيار وعدس» مع بديعة مصابني، و»الدنيا دولاب» بمشاركة نيللي، وطبعاً «آخ يا بلدنا»، إلى جانب أدوار على الشاشة الكبيرة في فيلم «زمان يا حب» (1973) مع فريد الأطرش، و»زوجتي من الهيبيز» مع دريد لحام. كما شاركت في أفلام «amour d'enfants»، و»تلاميذ آخر زمن»، و»الحب والفلوس»، و»الفجر». شكّلت أماليا مع شوشو ثنائياً كوميدياً مميزاً وأنجزا معاً الكثير من مسرحيات الأطفال. لكن مع وفاته العام 1975 واندلاع الحرب الأهلية وزواجها، ظنت أن أيام العز قد ولّت، فاعتكفت فترة في منزلها. شاركت في بعض المسرحيات والمسلسلات الا انها لم تكن راضية عن أدائها، الى أن شاركت في مسلسل «المعلمة والأستاذ» (1981) مع ابراهيم مرعشلي وهند أبي اللمع. تعتبر مشاركتها في هذا المسلسل المطبوع في ذاكرة اللبنانيين نقلة نوعية في حياتها المهنية، وتكريساً لصورتها البدينة والجميلة في أذهان المشاهدين. وتكمن أهمية هذا المسلسل الكوميدي في أنه قُدِّم في عز أيام الحرب وسقوط القذائف وانقسام البلد واحتلاله وابتكار خطوط التماس، وصعوبة التنقل وكثرة القناصة والتفجيرات والسيارات المفخخة. وَحّد المسلسل الكوميدي اللبنانيين في تلك الفترة في عز انقساماتهم. وساهمت أماليا الفتاة البدينة التي كان همها الوحيد آنذاك في العمل تناول الطعام وانجاب الأطفال، مع زملائها في مقاومة الحرب بالفن والضحك على الواقع المرير. كرَّس المسلسل نجومية أماليا في التلفزيون، وكان دورها فيه من أبرز الأعمال التي قدّمتها في مسيرتها. ومن بعده شاركت في عدد من المسلسلات، لكنها لم تحقق النجاح. وأدت فورة الفضائيات العربية وتغير المعايير الفنية في اختيار الممثلين والاعتماد على الشكل الجميل المتأنق والمتنمق، إلى إبعادها عن التلفزيون. ومن آخر الأعمال التي شاركت فيها مسرحية «10452» للأب فادي تابت العام 2004. واللافت في مسيرة هذه الفنانة النقية، إحتضانها المواهب الشابة وتشجيعها، وإنسانيتها في التعامل مع الآخرين من دون حسابات مسبقة أو غايات.