«ليست سوى برهة خاطفة...». ذلك ما يمثّله تاريخ ظهور البشر بالمقارنة مع عمر الكون المديد، وفق الفلكي الكندي الشهير هوبير ريف. وسواء بالقياس إلى زمن الأرض التي تشكّلت في المنظومة الشمسية منذ قرابة 4.6 بليون سنة، أو ظهور الحياة على الكوكب الأزرق منذ بليون عام، يعتبر الجنس البشري الذي ظهر منذ 3 ملايين سنة، أمراً حديثاً تماماً. الأرجح أن ذكاء البشر وصل إلى مرحلة صنع الحضارة منذ قرابة عشرة آلاف سنة، ما يدفع للقول بحداثة وعي الإنسان لزمن ظهور الحياة على كوكب الأرض، وكون البشر ضيوفاً طارئين، أو ربما كانوا نتاجاً لفعل ولادة اللحظات الأخيرة على ذلك الكوكب. وفي تعبير مكثّف، وصف الكاتب الأميركي المعروف مارك توين، مسألة حداثة وجود الإنسان بالمقارنة مع تاريخ الحياة على الأرض، بعبارة تقول: «مثل سماكة الدهان في أعلى «برج إيفل» الفرنسي بالمقارنة مع ارتفاعه الشاهِق». واستنتج توين أن تاريخ حياة البشر بلا معنى على مستوى الكون. بفضل المعارف العلميّة المعاصرة، تبلورت رؤية مختلفة عن ذلك الأمر. إذ بات ممكناً تتبّع المسيرة الطويلة لتطوّر الكون وتنامي تعقيد حجارته الأوليّة بداية من الذرّة إلى الجزيء إلى الخليّة البدائيّة ووصولاً إلى ظهور البشر وتبلور ذكاءهم ووعيهم. إذ بات من المستطاع احتساب العمر المديد للنجوم التي تصنع في جوفها الذرّات الثقيلة التي يوجد ما يماثلها في الهيكل العظمي للإنسان. ورتّب العلماء جداول زمنيّة عن تنامي الأوكسيجين الضروري للحياة على مدار ملايين السنين. كما صار مستطاعاً تقفّي ظهور الأجسام الحيّة، والتعرّف إلى منظومات بنياتها وتراكيبها، وكذلك درجة تعقيد تلك المنظومات، وعلاقتها مع مياه البحار والأرض اليابسة. ويمتد كل فصل من حكاية ظهور الحياة على الأرض على مدار مئات ملايين السنين، ما تطلّب جهوداً علميّة ذكيّة للتوصّل إلى قراءة تلك الفصول. من المستطاع وصف تاريخ الكون بعبارة مكثّفة وهو أنه تاريخ المادة التي تستفيق. فعقب «الانفجار الكبير» («بيغ- بانغ» Big Bang) لم يكن هناك سوى مجموعة من الجسيمات البسيطة التي كانت تتصادم وتنتشر في كل اتجاه، كأنها كُرات البلياردو تتبعثر على الطاولة الخضراء. ومع الانخفاض التدريجي لحرارة الفضاء، تقاربت الجسيمات واتّحدت، لتبدأ مرحلة هندسة المادة وتطوّر الكون. «أوديسة» الكون ويتيح علم الفيزياء فهم ذلك التطوّر. فانطلاقاً من الجسيمات الأوليّة التي نتجت عن ال «بيغ- بانغ»، تشكّلت أنوية الذرّات في قلب النجوم. ثم لبست الأنوية رداءً من الإلكترونات. وفي مسارات تشكّل النجوم والكواكب، ظهرت المواد بتراكيبها الفيزيائيّة والكيماويّة المتنوّعة. يعتقد كثير من العلماء أن الأمر ينطوي على تطوّر ما، يشبه ذلك الذي وصفه العالِم الإنكليزي تشارلز داروين في نظريته الشهيرة عن التطوّر التي ترسم شجرة الحيّاة المتشابكة والممتدة من الكائنات الأوليّة وصولاً إلى الإنسان العاقل الممتلك للذكاء. ومن المستطاع تلخيص «أوديسة» التطوّر في الكون باعتبارها تضم فصولاً تصف التطوّر النووي (من الجسيمات الأوليّة إلى الذرّات)، والكيماوي (من الذرّات إلى الجزيئات)، والبيولوجي (من الجزيئات إلى الخلايا الحيّة)، ثم التطوّر الأنثروبولوجي بمكوّناته الآتية من البشر وتشكيلاتهم. تدفع تلك الشذرات السريعة إلى القول بوجود صلات عميقة بين الإنسان وكونه، خصوصاً إذا جرى ربط تطوّر ذلك الكائن، بفصول «أوديسة» الكون كلها. إذ نحن نشعر بصلة القربى العميقة تجاه كل ما في الكون. وفي سياق تلك الصلات التي تمتد بين الإنسان ولحظة ال «بيغ - بانغ»، تنكشف عبارة مارك توين بوصفها باطلة. فالارجح أن البشر وذكائهم جزء من الشجرة العملاقة للكون وتطوّره المستمر منذ أزمنة سحيقة. كانت بضعة قرون من الثورات الصناعيّة كافية كي تتمكن البشرية من إفشال ذاتها، محوّلةً إلى حطامٍ بيئي قسماً من الحياة الحيوانيّة والنباتيّة. إذ شرع البشر في تدمير المعطيات الأساسيّة للحياة على الأرض، وهي جزء من تاريخ الكون الممتد عبر بلايين السنوات. شوّه البشر المحيط الهوائي بالغازات الكربونيّة والكبريتيّة الآتية من الصناعة، وتسبّبوا في زيادة مرعبة لنسب الحموضة في المحيطات المائيّة. ويجدر التذكير بالإمكانات النوويّة الهائلة لمعسكر الدول الذريّة التي باتت تملك ما يكفي للقضاء على أشكال الحياة على الأرض، بل أكثر من ذلك أضعافاً. الأرجح أن ظهور البشر كقوة كبيرة في «البرهة» الأخيرة من تاريخ كوكب الأرض، تحوّل تهديداً يلقي بثقله على مستقبل الكوكب وكائناته، بما فيها الجنس البشري. ويفترض بالبشر أن يتعاملوا بجدية قصوى مع ذلك التهديد الذي شكّلوه هم بأنفسهم، كونه يطاول وجودهم ومصير المخلوقات الحيّة كلها التي تناسلت على كوكب الأرض قبل ظهور البشر بمئات ملايين السنين، من دون أن تؤذيه وتهدّد توازنات بيئته. تتمثّل قيمة الوجود الذكي للإنسان، على رغم قصر زمنه في القياسات الكونيّة، في مدى قدرته على الاستمرار، إضافة إلى استعمال الذكاء لإزالة التهديد الذي باتت نشاطات البشر تشكّله على بيئة الأرض وظاهرة الحياة عليها. كم من الوقت يمكن أن تبقى حضارة متطوّرة تكنولوجياً قبل أن تدمّرها قوتها النووية؟ الأرجح أن القدرة على الاستمرار في أزمنة قادمة، يجب أن توضع في قلب الاهتمامات البيئيّة، بل أنها هي تحدّد ما إذا كان ذكاء البشر هدية مملؤة بالسم، أم أنها نعمة تساند قوى الحياة، سواء على الأرض أو في الكون الفسيح. * رئيس الهيئة الوطنية اللبنانيّة للعلوم والبحوث