غداة مقتل معمر القذافي في 20 تشرين الاول (اكتوبر) 2011، قال كثير من المراقبين خارج ليبيا انها «لن تكون قابلة للحكم بعده». وعززت التطورات على الارض، من صراعات وتناحر وتسابق على السلطة والنفوذ بين قوى الامر الواقع، هذه النظرية. وأخذ محللون سياسيون على بعض القنوات الفضائية، يكررون الكلام في الاتجاه ذاته، وأكثره مدعاة للاستهجان، قول بعضهم ان «الليبيين غير ناضجين سياسياً وهم بحاجة الى رعاية وتنشئة في مجال تعلم الديموقراطية». حتى ان بعض الناشطين الليبيين المحسوبين على ثورة 17 فبراير، وبعضهم يملك رصيداً في معارضته القذافي، أخذ يقتنع بهذا الامر ويعزوه الى اربعة عقود من عهد العقيد افرغ خلالها البلاد من المؤسسات وحرم مواطنيه من تجربة الديموقراطية. لكن نظرة متأنية وعن كثب تفيد العكس، شرط ان يلتزم صاحبها بالتجرد، خدمة لهدف التحليل. ليس الفشل (او التعثر والتخبط) في عملية الانتقال الديموقراطي، «خصوصية» ليبية، فبمجرد النظر عبر الحدود، خصوصاً الى الجارة تونس، يتبيّن انها هي الأخرى، ليست افضل حالاً بكثير، قياساً بمدى الانفتاح والوعي (المفترض) لدى مواطنيها، وقياساً ايضاً بطبيعة المعركة التي خاضها التونسيون لإطاحة نظامهم السابق، والتي تقل ضراوة بكثير عما شهدته جارتهم المترامية الاطراف التي وقعت في مخطط «الشعب المسلح» الذي فرضه القذافي على الصراع، ولم تتجاوز هذا المخطط بعد. ولا يمكن الأخذ بمقولة ان ليبيا لا تملك كفاءات او بالأحرى «نخبة» (سواء من المثقفين او المتخصصين) قادرة على انضاج مرحلة انتقالية ورعايتها. بل لعل المشكلة تكمن تحديداً في تهميش تلك النخبة واقصائها، بذرائع مختلفة، من جانب قوى الامر الواقع المسلحة والموجهة من جانب اطراف خارجية مغرضة. ولا يخفى ان النخب والكفاءات الليبية تعرضت منذ «تحرير» البلاد، الى سلسلة اتهامات، اذ يعاب على بعضها تأقلمه في العيش تحت نظام القذافي، بالنسبة الى من تمسك بالبقاء في البلاد خلال العهد السابق. اما بالنسبة الى الذين اضطروا الى الفرار للخارج هرباً من البطش، فإن التهم الموجهة اليهم، تتراوح بين فقدان القدرة على استيعاب الوضع الليبي وبين «ازدواجية الانتماء» بسبب تحصل عدد منهم، امراً واقعاً، على جنسيات اجنبية او نجاحهم في التأقلم مع عادات المجتمعات التي عاشوا فيها. ووصل الامر الى محاربة النخب والكفاءات وتصفية رموزها، كما تشهد على ذلك الاغتيالات التي تركزت على استهدف المثقفين الناشطين وأيضاً الكفاءات في صفوف العسكريين، في اطار مسلسل تجلّت فصوله اكثر وضوحاً في بنغازي. هذا الواقع وضع النخب أمام خيارين احلاهما مرّ: اما الانطواء والاكتفاء بإبداء وجهات نظر ب «صوت خافت» او البحث عن سبل للهجرة سعياً وراء فضاءات الحرية والتعبير وفرص العمل في ظل انعدام اي خطط لاستحداث أي مشاريع اقتصادية او اجتماعية او ثقافية. القوى «الجهوية» (المناطقية-القبلية) كلٌ منها متمسك بسلاحه، عن قناعة راسخة بأنه ورقة المقايضة الرابحة للحصول على امتيازات وانتزاع مطالب، والتيارات الدينية تبحث عن تعزيز مواقعها وسط تلك القوى، في محاولة مستمرة لاحتواء صدمة خسارتها الانتخابات الاولى بعد الثورة (في 7 تموز/ يوليو 2012) لمصلحة «التحالف» الليبيرالي الذي حصد، في شكل غير متوقع، المرتبة الاولى في عدد المقاعد في المؤتمر الوطني العام (البرلمان الموقت). ولم يعد من همّ لدى التيار الاسلامي سوى القضم التدريجي لنتيجة خصومه الليبيراليين، اما بالاحتواء او بالترهيب والترغيب، للالتفاف على نتائج الانتخابات. خلّف هذا الصراع، جموداً وإحباطاً لدى الناخبين ادى الى عزوف كبير عن المشاركة في الانتخابات المرتقبة ل «لجنة الستين» التي ستكلف صياغة دستور جديد، ما عكس انعدام الثقة لدى الليبيين بقدرة أي هيئة على صياغة دستور في ظل التجاذبات الحالية، واستشعار هؤلاء بأن التدخلات الخارجية في شأن سيادي ليبي، قد تفضي الى فرض نصوص دستورية لا تريدها غالبية المواطنين، ناهيك عن وجود فئة لا تؤمن اصلاً بالمسار الانتقالي وتعتبره هرطقة وتطالب ب «دولة الخلافة». ولأن قوى الامر الواقع التي استدعت اساساً التدخلات الخارجية، لم تنجح في تشكيل طبقة سياسية بل توارت عن الأنظار لمصلحة قوى خفية تتحكم بالتطورات، فإن الاولوية اصبحت في اعتماد الشفافية لمعرفة «اجندات» هذه القوى، وما اذا كانت مجرد بيادق في ايدي اصحاب المصالح الخارجية، ام انها «الدولة العميقة» التي يتحدث البعض عنها، ما زالت تمسك بمجريات الامور وتدير اللعبة في الخفاء، بانتظار فرصة سانحة ل «اعادة عقارب الساعة الى الوراء؟». والواقع ان حجم الفوضى ومدى الانهيار، يدفعان الى الشك في ان كل هذه العوامل مجتمعة، تعيق المسار الذي يفترض ان يؤدي الى صياغة دستور وإجراء انتخابات اشتراعية ورئاسية تتويجاً للمرحلة الانتقالية. بديهي ألا تطمح دولة في حال انهيار، كما ليبيا، الى ممارسة سيادة غير منقوصة وتجنب التدخلات الخارجية بالكامل. لكن في هذه الدولة، غالبية ساحقة، تطمح الى تلبية احتياجاتها اليومية (طبابة ووظائف وتعليم) بل تطمع في عيش كريم بالمستوى الذي يمكن ان تؤمنه الثروة النفطية الوفيرة في البلاد. ولأن الانقسام الجهوي لا يمكن ان يؤدي الى بناء دولة عدالة ورعاية اجتماعية حاضنة لجميع مواطنيها، فإن التوافق على حد ادنى من القواسم المشتركة أمر مطلوب ويقتضي تنازلات من الجميع. والسبيل الوحيد الى التوافق هو الحوار ومدخله المصارحة والمصالحة. مع اقتراب موعد انتهاء ولايته في شباط (فبراير) المقبل، تنبه المؤتمر الوطني العام، الى استحالة اقرار دستور جديد لعدم اكتمال اجراءات انتخاب «هيئة الستين»، ناهيك عن المهلة المطلوبة لتتمكن اللجنة التي يفترض ان يمثل اعضاؤها انحاء البلاد الثلاثة (طرابلس وبرقة وفزان) بالتساوي، من صياغة دستور. وهي عملية يتوقع ان تطول وتتخللها تجاذبات، نظراً الى إصرار تيار الاسلام السياسي على فرض بنود في الدستور العتيد والذي يقال ان هذا التيار يملك مسودة جاهزة له يريد فرضها، فيما تتمسك قوى أخرى مثل دعاة الفيديرالية والاقليات العرقية على تضمين الدستور مطالب خاصة مثل الحكم الذاتي و «دسترة» لغات غير العربية. في ظل هذا الوضع، فوجئ الليبيون بقرار المؤتمر تمديد ولايته الى نهاية 2014، على رغم معارضة «التحالف» الليبيرالي الذي يفترض انه يمتلك الغالبية في المجلس، ما يحدو الى الاعتقاد بأن ضغوطاً تمارس على اعضائه لدفعهم الى مباركة قرارات يرى الليبيراليون انها «تتخذ في الخفاء» وفي معزل عنهم. وتتذرع قوى نافذة في «المؤتمر» بضرورة تفادي الفراغ وتبعاته «الخطرة»، خصوصاً بوجود حكومة لا تحظى بتأييد، سواء من جانب التيار الاسلامي او التحالف الليبرالي، وتتهم بالفشل في معالجة ملفات حيوية عدة، اهمها الأمن الذي يتصدر اولويات المواطنين. وثمة مأخذ اساسي على «المؤتمر» هو فشله في اطلاق حوار وطني، باعتباره مجلساً منتخباً، يفترض ان يشكل «الوعاء» الاساسي للحوار. هذا الواقع، يستدعي بامتياز حروباً اهلية، او يتطلب علاجاً بمستوى الجدير بتداركها. ولعل الاولوية في هذا السبيل هي احتواء الصراعات المناطقية (الجهوية) التي تشكل الارضية الخصبة لسائر اوجه الصراع والفلتان، وذلك لا يتم الا بالعودة الى روحية التفاهم التي سادت البلاد خلال مرحلة التوحيد ونيل الاستقلال، وذلك بالعمل على البحث عن قواسم مشتركة وتقديم تنازلات متبادلة، والنأي عن الصراعات الايديولوجية التي تهب رياحها من دول الجوار. ان الاتجاه نحو اعادة تأسيس دولة في ليبيا، لا يتم إلا بالتمسك بالوحدة الوطنية ومبدأ السيادة والنأي عن الصراعات الخارجية. ويجب ان يدرك كل طرف من اطراف الصراع ان ليس بوسعه ابرام تحالفات مع قوى خارجية اذا كان حريصاً على قيم العيش المشترك بين ابناء الوطن الواحد، وأن لا سبيل لحماية مصلحة أي من مكونات المجتمع، إلا بحماية مصالحها المشتركة، في قيام دولة القانون والمؤسسات، العادلة الحاضنة لجميع ابنائها والتي تؤمن لهم العيش الكريم وتوفر سبل التنمية المتكافئة لينعموا جميعاً بمقدرات بلادهم المهدورة على مدى عقود وأجيال. وأن ارهاصات فوضى السلاح في ليبيا، ناتجة من خوف وعدم ثقة بالنفس، والسبيل لطمأنة كل الفئات، هو طلب ثقتها بالدولة الجامعة، وهذا لا يتم إلا عبر وجود طبقة سياسية من القادة الوطنيين القادرين على التواصل والانفتاح والحريصين على السيادة الوطنية ويتصرفون بتجرد وفي معزل عن مصالحهم الخاصة. * صحافي من أسرة «الحياة»