يعمل فتحي يومياً من العاشرة ليلاً حتى السادسة صباحاً في مستودع لتجميع النفايات. يحاول قتل الوقت في حجرته الصغيرة بأن يستمع إلى ما ينقله التلفاز القديم من صور لما يحصل في العالم الخارجي. تحيط الانبعاثات الكريهة بفتحي الذي شارف على الخمسين من العمر، حتى كاد يتعود عليها. غير أن حاله لا يختلف كثيراً عن حال من هم خارج المستودع، إذ تنتشر في شوارع العاصمة تونس الأوساخ وأكياس النفايات في شكل عشوائي. ويبدو محمد الذي يدخن نرجيلة في أحد المقاهي الشعبية غير آبه بالفضلات الملقاة على بعد أمتار منه: «ما باليد حيلة، تحولت الفضلات إلى ضيف دائم في شوارعنا. حتى الهروب إلى المناطق السياحية لن ينقذك من هذا المشهد البشع، هذه إحدى بركات ما يسمى بثورة الياسمين». وكشفت أخيراً وزارة الداخلية التونسية انتشار 800 ألف مربع من فضلات البناء في الساحات والطرق العامة بسبب استفحال ظاهرة البناء الفوضوي. وأطلق الخبير البيئي خالد بوراوي تحذيراً من خطورة تردي الوضع البيئي في البلاد، مشيراً الى أن تونس الكبرى تعاني من تدهور فادح في القدرات اللوجيستية للبلديات ونقص المعدات وتلف بعضها، وعدم قدرتها حتى على الوصول إلى مصب برج شاكير الذي يعتبر أكبر مصب للفضلات في العاصمة، إضافة الى عدم الإستقرار السياسي الذي تعرفه البلاد، ما أثر على البلديات التي لم تعد قادرة على تطبيق القانون بحزم، بحسب قوله. نسي فتحي ملامح البحر الذي لا يراه إلا في التلفاز، ويقول: «يومياً يرفع عامل البلدية بين 10 و13 طناً من الفضلات، ويسلك ما يقارب 40 كيلومتراً بحثاً عن الأوساخ، بينما ينام المواطن العادي هانئاً في منزله ليجد الأرصفة والشوارع نظيفة في الصباح». لا يخفي التونسيون امتعاضهم من تدهور وضع البلاد بيئياً، فولاية أريانة المتاخمة للعاصمة والملقّبة ب»مدينة الورود» تحولت إلى ما يشبه مدينة للفضلات. ويقول عمر الشيخ (70 عاماً): «يا حسرة على الورود، الآن لا صوت يعلو فوق صوت الفضلات»، في حين تبدي أمينة التي تدرس في معهد ثانوي استياءً عارماً من الوضع، وتقول: «أينما تولي وجهك ستداهمك الفضلات، إضافة إلى كل أشكال الفوضى وما يخلفه الباعة من أوساخ. تحول سكان أريانة الى سجناء في هذا الوضع البيئي الخطير». أما علي (مواطن)، فيناشد الجهات المسؤولة التدخل ل»إنقاذ مدينة الورود من زحف الأوساخ نحونا بسرعة غريبة، عليهم العمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فالحالة لم تعد تحتمل». وفي جزيرة جربة المسماة «جزيرة الأحلام»، شوّهت الفضلات ملامح منطقة كان يضرب بها المثل لشدة جمالها وسحر طبيعتها، الأمر الذي دفع سيدة إيطالية في تموز (يوليو) الماضي إلى تقييد نفسها بعمود إحتجاجا على تراكم النفايات في محيط مطعمها، ما سرّع من تدخل السلطات البلدية لرفع القمامة. وعلى رغم التأكيدات المتواصلة بإعادة فتح مصب «قلالة» للفضلات، بقي الوضع على ما هو عليه، ما حدا بمواطني الجهة إلى تنفيذ إضراب عام استنكاراً لما آل إليه الوضع البيئي. وانتقد الخبير البيئي خالد بوراوي الأوضاع التي تهدد جمالية المدينة وصحة المواطن، وقال إن «تونس الكبرى تفرز سنوياً أكثر من مليون طن من الفضلات المنزلية من دون اعتبار النفايات الصناعية والعضوية والاستشفائية. هذه الكميات لها تأثير سلبي على الوضع البيئي والصحي للمدن الكبرى وسكانها». وأكدّ رئيس الجمعية التونسية للعمل البلدي منير العربي بدوره، أن تحويل الفضلات إلى ثروة أمر ممكن، وقال إنّه يجب ترشيد سلوك المواطن وفرز الفضلات ابتداء من البيت ووضعها في أكياس خاصة وفصل البطاريات عن بقايا الطعام، لترسل مباشرة إلى مراكز التجميع، مؤكداً أن من بين الحلول لمجابهة تراكم الفضلات اقتناءها من المواطنين من قبل البلديات ثم تجميعها وإعادة تدويرها لتتحول إلى مواد كيميائية. حاولت رائحة الياسمين التغلب على الروائح الكريهة بعد «ثورة الياسمين»، لكن المحاولات بدت يائسة أمام التقدم الذي تحققه الفضلات في الشوارع والأزقة، مصحوبة بجحافل الناموس والذباب. الفضلات لم توفّر الأحياء الشعبية ولا الراقية على حد سواء، وانتصرت في المشهد البيئي الفوضوي البشاعة على الجمال، وأطاحت الفضلات برائحة الياسمين.