نرجح أن تكون المقابلة التلفزيونية التي أجرتها «الجزيرة» مع قائد جبهة النصرة أبو محمد الجولاني قد استرعت انتباه كثيرين. نرجح أيضاً أن تتفاوت درجة الاهتمام بهذا الحديث لدى المطلعين عليه مباشرة أو منقولاً إلى لغة وسائل إعلامية أخرى كالصحافة المكتوبة. ويعود التفاوت هذا، بطبيعة الحال، إلى تفاوت المقاربات الشائعة لظواهر الإسلام السياسي عموماً، وتفاوت أشكال التعويل أو عدم التعويل عليها. يبقى أن مجرد إطلالة قائد النصرة ومخاطبته لجمهور واسع حدث في حد ذاته ما دام الرجل قائداً لتنظيم إسلامي مقاتل صنفته الإدارة الأميركية منظمة إرهابية، وتبعتها في هذا الموقف أو ما يشابهه دول أخرى. يبقى أن السياق الذي تندرج فيه المقابلة، وإن كان ظرفياً جداً، من شأنه أن يعزز قيمتها الحدثية. فظهور الجولاني على شاشة وسيلة إعلامية معروفة يأتي على خلفية لغط وسلسلة من التصريحات المتضاربة، تأكيداً أو نفياً أو في منزلة بين المنزلتين، حول لقاء مسؤولين في الإدارة الأميركية مع مسؤولين في «الجبهة الإسلامية» التي تضم أبرز الفصائل الإسلامية المقاتلة في سورية ضد قوات النظام والموالين له. ويأتي تصريح الموفد الأميركي والسفير السابق في دمشق روبرت فورد ليزيد اللغط. فهو قال، قبل ثلاثة أيام، إنّ الجبهة الإسلامية هي التي «رفضت الجلوس معنا» وإن الإدارة الأميركية مستعدة للتحادث مع كل الأطراف. معلوم أيضاً أن الإدارتين الأميركية والبريطانية أعلنتا الأسبوع الماضي عن توقفهما عن تقديم المساعدات غير الفتاكة إلى المعارضة المسلحة خوفاً من وصولها إلى جهات غير مرغوبة، وذلك بعد الهجوم الذي شنّه مقاتلو الجبهة الإسلامية على مراكز ومقار «الجيش السوري الحر» والسيطرة عليها في المنطقة الحدودية مع تركيا. وإذا كانت الخرائط الميدانية القتالية شديدة التعقيد ولا تتطابق مع الهيكليات النظرية التي ترسمها دوائر المعارضة السورية في الخارج، ومعها دوائر دول نافذة، فإن الاضطراب والتشرذم اللذين يسمان المشهد السوري المفجع اليوم يتعاظمان على إيقاع فرز يختصر المواجهة، بالأحرى يختزلها اختزالاً عنيفاً، إلى منازلة بين نظام فئوي شرس وجهاديين يقاتلون كل من يخالفهم. ومثل هذا الوضع لا يترك للمراقب الحر، أياً كان موقعه ورأيه، سوى التفجع من «نكد الدنيا...». ويستفاد من هذا أن الجولاني استشعر، هو وغيره من الرعاة الإقليميين والدوليين، ضرورة تظهير صورة عن مشروعه الإسلامي تكون أكثر رشاقة واعتدالاً. فهو يعلم أنّ ديبلوماسية المصالح، المادية وغير المادية، والتي تصدع بها سياسات الدول النافذة تقتضي قدراً من التعاطي الواقعي (البراغماتي) مما يجعل باب التفاوض مشرعاً. والجولاني يخامره الاعتقاد، غير الخاطئ بالضرورة، بأن تصنيف تنظيمه في عداد المنظمات الإرهابية ليس سوى تقنية تربوية عنيفة تهدف إلى وضع المخالفين داخل «المطهر» في انتظار أن يراجعوا تصوراتهم وممارساتهم للحصول على صفة السويّة المطلوبة. فمن دون هذه المراجعة يصبح صعباً أن تتلاقى وتتصالح المقاربات والتصورات. مستنداً إلى اعتبارات عملية كهذه أعلن الجولاني رفضه القاطع لنزعة التكفير التي تسم نشاط فصائل إسلامية مقاتلة وبارزة. وهو يسعه أن يعتدّ بموقف لافت لزعيم تنظيم القاعدة الحالي أيمن الظواهري حين أعلن هذا الأخير قبل أسابيع عن ضرورة عدم تكفير المسيحيين والشيعة. وكانت وسائل الإعلام قد تناقلت قبل ذلك وقائع سجال حاد بين الجولاني وزعيم تنظيم إسلامي آخر هو «داعش» ينسب نفسه وولاءه إلى الجسم السديمي للقاعدة ويستوحي من الفظاعة العراقية نموذجه في المقاتلة الهادفة إلى إبادة الخصم والتنكيل به حتى عندما يتراءى له الخصم الكلي في جنازة أو مجلس عزاء أو في موكب زوّار. وكان الظواهري قد رجح كفة الجولاني على منافسه الداعشي في ما يخص الولاء وربما الحق في التمثيل. يسعى الجولاني إذاً إلى حجز مقعد لتنظيمه في المحادثات التي تنوي الإدارة الأميركية إجراءها في إطار التحضيرات المعقدة لمؤتمر جنيف الشهر المقبل. لكن ما يربحه زعيم جبهة النصرة داخل حقل التنافس المفتوح، والدامي في معظم الأحيان، بين الفصائل الجهادية، أي نيل المكانة القاعدية قد يكون عقبة في طريق أي علاقة مع الغرب عموماً، ومع الإدارة الأميركية خصوصاً. من هنا ضرورة ترشيق الخطاب وتعديل الصورة الشائعة عن الظاهرة الجهادية والتكفيرية. يتلخص هذا الترشيق، في عرف الجولاني، في رفض التكفير وفي التمسك بمبدأ الشورى وجمع أهل الحل والعقد لإقرار صيغة الحكم المنشود على أساس الشريعة الإسلامية. ويعني هذا أن الترشيق عودة إلى صورة بلاغية صنعها الإسلام السياسي منذ سيد قطب مفادها أن الإسلام هو الحل. الجديد أن الجولاني يدرج هذه المعادلة في إطار النظرية الإسلامية التقليدية عن السلطة والسياسة الشرعيتين. والحال أن آراء الفقهاء المسلمين في هذه المسألة متعددة ولا تخلو من التباين، وإن كان بعضها جرى تكريسه في مختصرات العقائد وتدريسها داخل المراكز الدينية الكبرى. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الجسم العلمائي في المجتمعات الإسلامية لم يعرف تنظيماً يتولى حصرياً تعريف وتعيين حدود الشرعية، كما هي حال الكنيسة مثلاً، وأنّ الفقهاء تعاطوا مع الموضوع تبعاً للظروف ونزاعاتها وبقدر كبير من التجريبية، ومن الحس السليم أحياناً، فإنه لا يعود أمامنا سوى استقراء كل حالة على حدة آخذين في الاعتبار السياقات العامة والظرفية لأحكامهم. المشكلة اليوم هي أن مقولة «الإسلام هو الحل» لا تحل أي مشكلة. فالإسلام هو عنوان هوية عريضة تغطي في الواقع عشرات المجتمعات والثقافات واللغات والأعراق المختلفة ومعها شتى أشكال التنظيم الاجتماعي التي يقتضي استمرارها تأويل الشرعية الدينية تأويلاً يتناسب مع صورتها ومثالها. وهذا الأمر يخترق التاريخ الإسلامي برمته. ويكفي التذكير بأن ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة، وهم من كبار الصحابة ومؤسسي الدعوة ورموز الحقبة الذهبية التأسيسية، قضوا نحبهم قتلاً واغتيالاً باسم شرعية أخرى لم تعدم التذرع بحجج تستند إلى تفسير معين للشريعة وللسياسة الشرعية. وهذا شرح يطول. ما يهم الجولاني هو التركيز على أن مشروعه يستند إلى تصور عن الشرعية التي ينبغي تثبيتها ما دامت شرعية النظام السوري مفقودة أصلاً. الترشيق الجولاني سيبقي صراع الشرعيات مفتوحاً إلى الأبد.