الكتب القديمة تعود مرفوعة كالسيوف. وهي تعود بضراوة أشد للتعويض عن حجب قسري يحسب المتظلمون منه أنه طاولها وطاول وجوه وأسماء واضعيها ممن يعتبرون سلفاً صالحاً لكل زمان ومكان. الكتب التي حسبها ويحسبها كثيرون من المحدثين ومؤدلجي الحداثة مجرد أثر بعد عين ويستحسن أن تبقى مركونة في خزائن ورفوف أثرية، ها هي تنفض غبارها وتقذفه في وجه الربيع العربي وفي أكثر تعبيراته تعقيداً واستعصاءً: الانتفاضة السورية أو الثورة إذا شئتم. هذا هو الانطباع الذي تولده المناظرة، الخافتة لدى بعضهم، والمجلجلة لدى آخرين، والتي أطلقتها التصريحات الأخيرة الدائرة على الخريطة الجهادية ل «القاعدة» وأخواتها في العراق والشام. الشريعة في فوهة البندقية. تلك هي الخلاصة التي يمكن تحصيلها من خطاب الجهاديين المذكورين في الأيام القليلة الماضية. لم يكن مفاجئاً أن يقتنص النظام السوري فرصة التصريح الجهادي المقدم وكأنه يزف بشارة الخلاص. إذ لم يتردد في أن يطلب من مجلس الأمن إدراج «جبهة النصرة» ضمن أخوات «القاعدة» الإرهابية بمقتضى قرار صادر عن المجلس. ذلك أن النظام السلطاني المحدث منذ عقود يبيع التحديث التنموي والريعية المتوحشة في «حارة السقايين» الدوليين ويعوّل على انتزاع شرعية خارجية تكون فائض قيمة لتدجين سلطوي يستند عموماً إلى القوة والعسف والمعالجة الأمنية. وليس مفاجئاً أيضاً أن ترى الخارجية الأميركية في الإعلانات التبشيرية ل «القاعدة» ومشتقاتها في سورية تأكيداً لما سبق وتوقعته. في المقابل، من الضروري أن نمعن النظر في الكلمات القليلة التي نشرها رئيس «الائتلاف الوطني» لقوى المعارضة السورية أحمد معاذ الخطيب على صفحته في موقع التواصل الالكتروني، كتعبير عن موقف من مسألة العلاقة بين «جبهة النصرة» الجهادية وتنظيم «القاعدة» بحسب ما أعلن زعيم «القاعدة» في العراق أبو بكر البغدادي. فقد علّق الخطيب قائلاً باقتضاب شديد: «فكر القاعدة لا يناسبنا وعلى الثوار في سورية اتخاذ قرار واضح بهذا الأمر». هذا التصريح المختصر جداً يقول الكثير في ما يعلنه وما يضمره وما يسكت عنه في آن. يندر أن نقع على تصريح يكون إلى هذا الحد شبكة رسائل أو عقدة رسائل تخاطب جهات ومقاربات مختلفة للثورة السورية ولموقع الإسلام السياسي والجهادي فيها. وهو يغمز من قنوات عدة. وقد يكون إعلان لجان التنسيق المحلية في سورية رفضها لدعوة الظواهري و«القاعدة» إلى إقامة دولة إسلامية في سورية، استجابة أو صدى لطلب الخطيب. وينطبق هذا أيضاً على قول ناطق باسم «الجيش الحر» إن «جبهة النصرة» لا تتبع له وأنه لا ينسق معها. وصدرت تصريحات مختلفة عن مسؤولين آخرين. من الشرعي أن نسأل ما معنى أن يقوم رئيس هيئة معارضة تعتبرها دول بمثابة الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري ومُنِحت أخيراً، في قمة الدوحة، مقعد سورية، ويطلب من الثوار اتخاذ موقف واضح كما لو أنه لا يمثلهم تماماً. ويرجح في الظن أن الأمر لا يتعلق فحسب باختلاف خريطة القوى الميدانية عن خريطة قوى التمثيل السياسي الخارجي، فهذا أمر مفهوم، بل يتعلق بتلميح إلى التباس أو شبهة تواطؤ يطلب الخطيب- الساعي حثيثاً إلى انتزاع هامش أكبر للاستقلالية السورية- إزالتهما وتبديد الشكوك في صلاحيتهما لدى جهات وأصوات في المعارضة ذاتها. ومن مفارقات الأمور ربما أن الخطيب نفسه كان انتقد في كانون الأول (ديسمبر) الماضي قرار واشنطن ادراج «جبهة النصرة» على لائحة المنظمات الإرهابية. كما انتقد نائبه ورئيس «المجلس الوطني» جورج صبرا القرار الأميركي مشدداً على أن الشعب السوري يعتبر «النصرة» جزءاً من الثورة. نعلم أنّ مناسبة هذا الموجز الصادر عن رئيس المعارضة السورية المستقيل مع وقف التنفيذ، تعود إلى إعلان زعيم «القاعدة» في العراق في تسجيل صوتي أنه «آن الأوان لنعلن أمام أهل الشام والعالم بأسره أن جبهة النصرة ما هي إلا امتداد لدولة العراق الإسلامية وجزء منها». وأعلن توحيد «النصرة» ودولة العراق الإسلامية تحت اسم واحد هو «الدولة الإسلامية في العراق والشام وتوحيد الراية، راية الدولة الإسلامية، راية الخلافة». ويظهر أن التصريح الدعوي هذا، وتداعياته، استدعت توضيحاً من الجبهة. فقد أعلن زعيمها أبو محمد الجولاني، في تسجيل صوتي أيضاً، مبايعة زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري وتنصل من «البشارة» العراقية من دون أن ينفيها تماماً، بدعوى أن قادة «النصرة» وزعيمها لم يُستشاروا ولا علم لهم بالأمر. كلام الجولاني عن اننا «استخلصنا من تجربتنا» في العراق ما سر قلوب المؤمنين في أرض الشام تحت راية «النصرة» يغمز من قناة حساسية إقليمية لا ينجح التوحيد الدعوي والإيديولوجي في حجبها، مما يذكرنا بحكاية الأخوّة اللدود بين البعثين الحاكمين في سورية والعراق. ينبغي أن نقرأ جيداً عبارات الجولاني وما بين سطورها ولعبة التورية التي يلجأ إليها وتغليفها بخطاب إسلامي مستمد من مختصرات وفتاوى الكتب الصفراء. فهو حاول طمأنة المجموعات الأخرى المسلحة في سورية وتبديد مخاوفها من التهميش. إذ أن دولة الإسلام في الشام، بحسب عبارات الجولاني، تبنى بسواعد الجميع «من دون إقصاء أي طرف أساس ممن شاركنا الجهاد والقتال من الفصائل المجاهدة والشيوخ المعتبرين من أهل السنّة وإخواننا المهاجرين. كما أن تأجيل إعلان الارتباط لم يكن لرقة في الدين أو لخور أصاب رجال الجبهة وإنما حكمة مستندة على أصول شرعية وتاريخ طويل وبذل جهد في فهم السياسة الشرعية التي تلائم واقع الشام، والتي اتفق عليها أهل الحل والعقد في بلاد الشام من قيادات الجبهة وطلبة علمها ثم قيادات الفصائل الأخرى وطلبة علمهم، ثم من يناصرنا من المشايخ الأفاضل وأهل الرأي والمشورة خارج البلاد». ينتظم هذا الخطاب الدعوي حول مصطلحات إسلامية معروفة مثل «السياسة الشرعية» و «أهل الحل والعقد» وتعريف المجتمعات بجماعات متمايزة جغرافياً مثل أهل الشام. وقد تبدو المسافة فلكية بين مرجعية هذا الخطاب ومرجعية اللغة الحقوقية السياسية لمن يحتلون واجهة المعارضة في الخارج، ولقسم لا يستهان به من الداخل.