أكبر من الحياة كان على نورمان ميلر، صاحب الأنا الضخمة، أن يعيش أكثر من حياتين ليتحقّق له العيش كما أراد، لكن قلبه وكبده عصياه. المشاكس، المقاتل الذي اقترب من القتل ورأى نفسه شخصيّة عامّة مثل إرنست همنغواي بات في غروبه آخر كبار القلم الأميركي. مشى بسلطة الحكيم، المرشد على عكازين، بشعر أبيض، جهاز للسمع، نظر ضعيف، وتلك اللمعة الطفولية، المشاغبة، الضاحكة في عينيه. مذ نشر في الخامسة والعشرين «العاري والميت»، التي رآها جورج أورويل أفضل كتاب عن الحرب، أوضح أن له كلمة يقولها في كل ما يحدث. ترك أربعة وأربعين كتاباً تجاوز كثير منها ألف صفحة، آلاف المقالات لمطبوعات عدّة منها «بلاي بوي»، خمسة وأربعين ألف رسالة، سبعمئة مقابلة صحافية، وسيناريوات وكلمات للمناسبات العامة. البروفسور ج مايكل لينن، حافظ أرشيف ميلر ومنفّذ وصّيته، وجد الكثير ليقوله في السيرة التي كلّفه الكاتب كتابتها. «نورمان ميلر: حياة مزدوجة» الصادرة عن دار سايمن وشوستر في 947 صفحة تغطّي حياة اتّسعت، إلى الكتابة، لستّ زوجات، تسعة أولاد وعشرات العشيقات. هدّد برمي زوجة من النافذة، وكاد يقتل أديل، زوجة أخرى، حين طعنها أثناء حفلة أقامها في منزله ليعلن ترشيحه لمنصب عمدة نيويورك ممثّلاً للوجوديّة. زارها صباح اليوم التالي في المستشفى وهو يواجه الاعتقال والسجن أو المصحّ. لكن همّه الأول وفق صديقه الممثّل وكاتب السيناريو ميكي نوكس كان رسالة مفتوحة كتبها إلى فيدل كاسترو. طلب منه أن يجلبها من بيته في الشارع 94 لكي يرسلها إلى الناشر. صعق نوكس، لكنه كان يعرف أن ركيزة وجود ميلر هي كميّة كتابته. لم يندم ميلر تماماً على طعن أديل إلا بعد أعوام، ونطح ذات مساء عدوّه الكاتب غور فيدال في حفلة حضرتها شخصيّات عامّة بينها جاكلين كينيدي. كانت والدته فان ابنة حاخام ليثواني بارز، وحذفت عقداً كاملاً من عمرها حين هاجرت إلى نيوجرسي. خدم والده، المحاسب البريطاني الأنيق واليهودي أيضاً، في الحرب العالمية الأولى، وأدّى إدمانه على القمار إلى الدين والسرقة. أغدقت الأم الحب على ابنها الوحيد وأورثته طموحها وثقتها بنفسها، ونقل إليه والده بارني حب المخاطر والبذلات ذات القطع الثلاث. نشأ وسط مصاعب الأزمة الاقتصادية، وتفوّق في الدراسة مع اهتمامه الشره بالأدب وهندسة الطيران. في الحادية عشرة، كتب الفتى الخارق الذكاء رواية من خمسة وثلاثين ألف صفحة، وانتقل من جون ستاينبك وجيمس ت. فاريل إلى بطليه الدائمين د. ه. لورنس وإرنست همنغواي. اختار اليهودية غير المتديّنة والاشتراكيّة، وألقى خطبة تحريضيّة في الاحتفال الديني «بارميتزفا» مدح فيها المتمرّدين اليهوديين سبينوزا وكارل ماركس. قال صديق فتوّة إنه كان «ابن ماما باكياً» نهره الأولاد الإرلنديون الخشنون في الحيّ، وإذ ألّف كتيّباً عن الملاكمة، شغف حياته، كشف ميله المقبل إلى العنف. دخل هارفرد في السادسة عشرة وهو عازم على تحقيق أفضل النتائج في الأدب (نعرفها) والجنس (؟). تطوّع للقتال في الحرب العالمية الثانية لكي يَخبر الأحداث شخصيّاً ويتمكّن من كتابة «رواية الحرب» كما اعترف لأولى زوجاته. فضّل أن يكون نفراً في المشاة بدل أن يجلس ضابط مخابرات خلف مكتب، ووجد نفسه رامياً في فوج من محافظي تكساس المتطرّفين. قاتل في فرقة استطلاع خلال تحرير الفيليبين، وحين صدرت «العاري والميت» طابقت واقعيتها القاسية ومناخها السياسي المشحون تصوّره للحرب في الأدب الذي كتبه خلال الدراسة. اعتُبرت من أفضل روايات الحرب، وكانت أولى أعماله الأكثر مبيعاً التي عرفها في كل عقد منذ أربعينات القرن الماضي حتى وفاته عن أربعة وثمانين سنة في 2007. مع الشهرة والثروة في منتصف العشرينات فقد شيئاً من رشده. رأى باطّراد أنه شخصيّة عامّة كهمنغواي، وأن حياته سباق دائم مع السلف والمعاصرين من الكتّاب المرموقين. نشر أحياناً أكثر من كتاب في العام الواحد بدافع التزامه السياسي، طبيعته الغزيرة وكلفة الزيجات والغراميّات. حافظ غالباً على مستواه الرفيع. في 1969 رُشّح لجائزة الكتاب الوطنيّة عن «جيوش الليل» و «ميامي وحصار شيكاغو»، وتكرّر الأمر بعد ثلاثة أعوام عن «نار على القمر» و «سجين الجنس». فتنته السلطة ورجالها، لكنه لم يثق بها أو بهم. اعتبر نفسه يساريّاً غير أنه أعاد النظر دائماً في فرديّته وقال إنه اشتراكي حرّ ثم محافظ يساري. في الستّينات ذكر أنه لم يعد يهتمّ بوصفه «ولكن أرجوكم ألا تقولوا إنني ليبرالي». آمن بأن لمعظمنا شخصيّتين تتصارعان وتسعيان إلى المصالحة، أولّهما القدّيس والمضطرب عقليّاً اللذين اختارهما عنواناً لكتابه عن القاتل غاري غيلمور قبل أن يغيّره إلى «أغنية الجلاّد». ساهم في الخمسينات التقليديّة في التمهيد لانفجار الستّينات الثقافي، وبات من روّاد المعلّقين التلفزيونيين الواسعي الاطّلاع. اشترك في ابتكار التعليق الصحافي الشخصي، وقد يكون مقاله «سوبرمان يذهب إلى السوبرماركت» ساهم في فوز بطله الوجودي جون كينيدي. لكن تأثير إدمانه على الشرب والمخدّرات في تلك الفترة بلغ ذروته بطعن أديل وإدخاله عيادة بلفيو النفسيّة، وخسارته المحتملة لنوبل. مع ذلك كانت الستّينات فترة لامعة مهنياً غذّت كتابته بحرب فييتنام، وتوّجتها بجائزة بوليتزر في 1969 عن «جيوش الليل» التي استوحت مشاركته في التظاهرات ضدّها في واشنطن قبل عامين. من العتمة ثلاث قصص آخر الشهر الماضي ظهرت ثلاث قصص على الإنترنت شغلت الصحافة وقرّاء كثراً. وحدهم الباحثون تمكّنوا في الماضي من الاطّلاع على «محيط مليء بطابات البولينغ» و «بولا» و «الفتى صاحب العيد» التي أغلقت جامعتا برنستن وتكساس موضعها بالقفل، وإذا بها تتوافر فجأة لأعضاء موقع «وات.سيدي». قيل إن النسخة واحدة من خمس وعشرين طُبعت في لندن في 1999 وباعها في أيلول الماضي على أيباي «سيمورستينغلاس» في برنتفورد، غرب لندن، بسبعة وستين جنيهاً استرلينياً ونصف الجنيه فقط. سُحبت بعد القرصنة من الموقع الذي هدّد من يحاول تحميلها بإغلاق حسابه في خطوة سالنجرية ملائمة، لكن القصص كانت نُسخت على مواقع أخرى بينها «ريديت» وباتت موضوعاً لتعليق القرّاء. تبدو «محيط مليء بطابات البولينغ» سابقة على «الحارس في الجاودار» ويرويها فنسنت، الشقيق الأكبر لهولدن كولفيلد، بطل الرواية الشهيرة، الذي يبعث إليه برسالة من «مخيّم الراحة الجيّدة للسذّج». نصّها عصبي ساخر كما في «الحارس ...»: «هذا المكان مقرف. لم أشاهد من قبل هذا العدد من الجرذان. يُطلب منا صنع أشياء من الجلد والذهاب في نزهات طويلة. هناك مسابقة بين الحمر والبيض. المفروض أنني أبيض. لكنني لست أبيض حقيراً». تدور أحداثها في منطقة كيب كود التي تعيش فيها الطبقة الوسطى العليا، وتتناول اليوم الأخير في حياة فنسنت وكينيث، الشقيق الآخر لهولدن الذي يتحوّل إلى آلي في «الحارس في الجاودار». يحب كينيث البيسبول والأدب، ويكتب قصة عن رجل تقمعه زوجته التي تسمح له بلعب البولينغ مرّة واحدة في الأسبوع. حين يُتوفى تكتشف الزوجة أن شخصاً غيرها يضع الزهور على قبره فترمي طابة البولينغ من النافذة. تطابق طباع المرأة شخصيّة بعض النساء اللواتي اكتسبن قوة خلال خدمة أزواجهم في الحرب، وفاجأنهم بمصادرة السلطة لدى عودتهم متعبين نفسيّاً وجسدياً. يروي فنسنت القصّة ليتخلّص من شقيقه الذي يموت باكراً لكنه لا يستطيع. رافق كينيث هولدن في رحلته إلى إيطاليا، وصحب فنسنت إلى فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ وألمانيا. «لا أستطيع تحملّ ذلك. ينبغي ألا يلتصق بنا هذه الأيام». يتحدّث فنسنت في الواقع عن ذكرى كينيث الصامد في بال شقيقيه في حقول القتال في أوروبا حيث خدم سالنجر نفسه في الحرب. شارك سالنجر في النزول على النورماندي، وكانت فرقته 12 للمشاة بين أول من دخل معسكر داكاو الذي أُعدم سجناؤه اليهود حرقاً بالغاز. أكّد شين سالرنو وديفيد شيلدز، إنما من دون دليل، إصابة سالنجر بصدمة حرب ودخوله مصحّاً في كتاب «سالنجر» الصادر في أيلول (سبتمبر) الماضي، وقالا إن «الحارس في الجاودار» رواية مقنّعة عن الحرب. «بولا» و «صاحب العيد» قصتان غير مكتملتين، تتناول أولاهما امرأة تحسب نفسها حاملاً وتلزم الفراش، وثانيهما عن شاب يشرف على الجنون، ويستلقي على فراش في ما يبدو مركز إعادة تأهيل بشعره البنّي الفاتح المسرّح بعناية ورداء منقّط سحبه إلى حنجرته التي تكاد تخلو من الشعر، أي أنه شبيه بالأطفال.