الأحد 13/9/2009: خارج الصورة لا متسع لي في الصورة. تزاحموا فملأوا إطار المكان وأنا وراء المصور واقفاً بلا دعوة. أرى الصورة على الحائط. أذكرهم واحداً واحداً ولا يذكرونني حين ينظرون إليها في بلادهم الجديدة المتباعدة. الياقات المنشّاة وربطات العنق المناسبة لبزات من الجوخ الإنكليزي أنجزها خياط واحد يثقون به في بناية اللعازارية، يقفون في الحديقة الصغيرة لاستوديو «فاهيه» ملبين أوامر المصور في طريقة الابتسام ووجهة العيون، الى أن يبهرهم الضوء ويتم التأكد من إنجاز الصورة. حملوها معهم حين رحلوا وبقيت وحدي خارج الصورة، بل إن إطار مسكني مزقته الحروب، لم يبق ملائماً لأي صورة. الاثنين 14/9/2009: معركة في لغة المعارك العربية تكاد تنحصر في اللغة لا في الجبهات، وإذا أتيح لها الخروج فإلى الغرائز حيث مقاتل أهل يتكلمون اللغة نفسها. ويصر صديقي الذي نال الجنسية البريطانية على استخدام لغة المعارك العربية حين يهاتفني من لندن، ومن ذلك حوارية يرددها: «لماذا انسحبتَ من المعركة؟ حين الجبان يكرّ والشجاع يفرّ فتأكّد أن في الأمر خيانة». ورداً على حواريته أخبرته عن لوحة كتبت عليها الآية «إن ينصركم الله فلا غالب لكم» معلقة في أحد المطاعم الكبرى على الطريق الصحراوية بين الإسكندرية والقاهرة، فدهشت لاستحضار معنى حربي في مطعم، وقلت للسائق: أليس الأجدر تعليق لوحة تضم الآية «كلوا من طيبات ما رزقناكم»، أم أن لغة الحرب في مطاعمنا لا في الجبهات؟ لم يستطع صديقي اعتماد لغة ترضي عقله وتسمح بالحضور في مجتمعه العربي في الوطن والمهجر. يتمسك بلغة السبعينات لعدم وجود بديل، لكنه في أحيان كثيرة يضجر من نفسه حين يرى لغته موزعة على حوالى 60 عربياً في حوالى 400 فضائية يمارسون الطنين، الطنين ولا شيء آخر، باعتبارهم خبراء في الشأنين السياسي والاجتماعي. لا أحد منهم يقول جديداً، والجميع يكرر الألفاظ/ الطنين. قال صاحبي: حالتنا النفسية نتاج ما نشاهد وما نقرأ. قلت له إنني اخترت الانسحاب، وحتى إذا لم أنسحب فإن الطنين سينفيني فلا دور لي ولأمثالي في شؤون الفكر والسياسة حيث يروج التنازل عن القيم، أياً كانت هذه القيم. نمشي على خط الدائرة فنصل الى نقطة البدء، ثم نعاود المشي حتى الدوار، ونقول اجتهدنا فلم نحقق نقلة في المسار. الثلثاء 15/9/2009: ذلك الرمل متسع الرمل عند الشاطئ، من زبد الماء الى أول التراب والعشب والشجر. نمشي فلا يميزنا الواقفون على الشرفات، مجرد كائنين صغيرين نتحرك بين الأخضر والأزرق. الرمل هو مدانا، نتداخل في الهواء المالح والنور الغامر ووهج الماء. بارد هو البحر لكنه يرسل سخونته حين يتحد رذاذه بالشعاع. نمشي على الشاطئ، ندخل في الأشياء لا نعبرها. مشي يختلف ما بعده عما قبله. ونعود الى الفندق وقد تغيرنا، لا نشبه أولئك المتحلقين حول بركة ماء داخل جدران عالية. الشاطئ الوسيع لنا والأفق يحضن الأحلام لأن الحب في المتسع غيره في الأمكنة الضيقة، لا اختناق ولا فراق. ألا يزال الرمل واسعاً هناك؟ يسأل البعيد الذي يفتقد الخفق المفاجئ بعدما ضمرت روحه بين بيت ومكتب. يكتفي بالسؤال لا يطلب جواباً. لقد خسر لمسة الجنون الحبيب واندرج في نظام الأشياء. يرى غصن الشجرة وفق مقياس محدد ويعرف سلفاً أحجام الثمر المهجن. يسأل ولا يطلب جواباً: ألا يزال واسعاً ذلك الرمل أم أنه ضاق فتداخل رذاذ الموج بتنهيدة فتاة الشرفة؟ الأربعاء 16/9/2009: المتخصص يلبس ثوب «الحياد العلمي» في غرفته المقفلة، مسطراً مستطرداته يغزلها من خيوط آخرها في يده وأولها في أمكنة بعيدة. ولا نتعلم تكنية الاتهام بالهزء من رجل امتلأت غرفته بكتب قديمة وحديثة فلا فسحة تكفي حركته الحرة. نتعلم منه معارف ينثرها ليغرينا ونحاذر أن يقودنا الى حيث يلاعب شياطين كثيرة ليوجه سهامه الى شيطان واحد. وقادنا الحذر الى التأكد من أن التخصص في لعن شيطان واحد هو سلوك غير محايد وغير علمي، وأدركنا في ما يشبه اليقين أن صاحبنا القليل الكلام البطيء الحركة نذر حياته لتهديم منظومة واحدة أو نظام واحد، يجهد في جمع المعارف وابتكار الأساليب وشحذ الكلمات والصياغات اللغوية لتصير سهاماً أو سكاكين. كانت المعرفة شجرة فأحالها خشبة مسننة، أي سلاحاً بدائياً أكثر إيلاماً من الأسلحة الحديثة السريعة الفتك. يلبس ثوب «الحياد العلمي» في غرفته المغلقة حتى إذا غادرها تمزق ثوبه بفعل الهواء والنور مفسحاً لعري مخجل: إذا تخصصت في لعن شيطان واحد فالحال إننا نشهد صراع شيطانين. وليست الكتابة صراع شيطانين، إنها مطلوبة بذاتها ولذاتها ولمن يقرأها وإن تشيطن أحياناً. كتابة مطلوبة لكنها نادرة في مجتمع يتساوى فيه «المحايد العالم» مع حامل سلاح في الشارع. الخميس 17/9/2009: رسالة من رسالة بعثت بها قبل سنوات الى صديق مهاجر، وجدتها أثناء انتقالي من مسكن الى آخر: «يستوي عندكَ التقاطع والانطلاق تُحبَسُ في الداخل ولا تأتيكَ أيامنا أيامنا. محوناكَ من ذاكرة الفصول وخلفَ توالي الأيام يكمنُ سرك الخفيّ، تفاجئُ استمرار الوجود وتُخرج أزواج الصدفة. رحلتَ، سلامٌ عليك من رطب القلب واحتياط العواطف. وعُدتَ فأهلاً الى بيت جدك وأبيك. عراك الدفء بين الوصلة والوصلة ورُحتَ تفرك دمع العيون، تُلاعب زوايا الرصيف وترسم للشارع حداً جديداً. تُرفرف مع أعلام الدوائر الرسمية وتحفُرُ سرّ الزهرة في الإسفلت، رابضاً راقصاً طائراً ثم أزرقٌ يحتويكَ وتمّحي الحدود».