كتب ريموند شاندلير، في 1951، إلى مراسل اسمه دي جي إيبرسون يُعلمه ببعض سوابق سيرة فيليب مارلو، «البطل» الذي شرع يروي أخباره وأفعاله ووقائع «حياته» المتخيلة قبل 15 عاماً. فأخبر مراسله، متحفظاً، بأمور لم يروها، ولم يلمح إليها في رواياته. فزعم أن فيليب مارلو هذا، وهو صنعه وتخيله، ولد في سانتا روزا، المدينة الصغيرة والواقعة بشمال كاليفورنيا، ودرس سنوات في جامعة بولاية أوريغون، قد تكون جامعة يوجين أو جامعة كورفاليس، وزاول لعبة كرة القدم، الأميركية طبعاً، وكان مكسبه منها كسراً في عظمة الأنف. وروى شاندلير لمراسله أن مارلو عمل تحرياً خاصاً لحساب شركة تأمين قبل أن ينتقل إلى العمل في جهاز مدعي عام لوس انجيليس، ويطرد من الجهاز بذريعة تفوق خدماته ونفاذها. وقال الروائي لمخاطَبه إنه لا يعلم على وجه الدقة متى ولد فيليب مارلو، ولكنه يبلغ ال 38 من العمر، على ما نُقل إليه منذ وقت طويل، ولم يَشِخ ولم يطعن في السن. وهو مقيم على هذه السن، لا يغادرها. وتقود عملية حسابية إلى اطراح 38 سنة من 1951، «فيولد» مارلو في 1913، قبل مئة عام عداً ونقداً. ونحن نحتفل بمئوية أشهر تحرٍ في القصص البوليسي الأميركي قبل انصرام 2013، ودخوله عامه الأول بعد المئة. و1913 ليست سنة عادية في حياة صاحب فيليب مارلو، ريموند شاندلير، الرجل المادي والحقيقي. وهو ولد بشيكاغو، في 1888. وفي 1895، سافر مع والدته، المطلقة لتوها، إلى بريطانيا حيث قضى مراهقته. وبعد دراسة الآداب القديمة، اليونانية واللاتينية والإنكليزية الكلاسيكية، في دولويش كولدج، قرر أن يعود إلى بلده الأم سعياً في تحصيل الثراء المتاح هناك، وتردد في التوجه إلى وجهة يقصدها قبل أن يحسم أمره ويختار لوس انجيليس ملبياً دعوة زوجين صديقين التقاهما على ظهر الباخرة، آل لويد. ووقع هناك على ما يشبه فردوساً: بلدة كبيرة تحوطها قرى ريفية، ومحطة سياحية، وما لا يحصى من النواحي المتوحشة بين الجبل والمحيط. فقرر الإقامة هناك. وفي انتظار العثور على عمل ثابت ومجزٍ، تنقل بين وظائف موقتة وعابرة، فكان يوماً قاطف شجر مشمش، وفي يوم آخر معد راكيت (كرة مضرب). ويسّرت له وساطة صديقه وارن لويد، المحامي، عملاً في لوس أنجيليس كريمري. وعلى شاكلة ملايين من الشبان أمثاله، انتزعته الحرب من سعيه المتواضع في تحصيل حياة سعيدة، فتطوع، في 1917، في الجيش الكندي، وأبحر مع جنود الجيش إلى شمال فرنسا، حيث قاتل الألمان في الخنادق القريبة من ساحات المعارك الكبيرة: فردان، السوم... وحين سرح وعاد إلى كاليفورنيا، استأنف حياته من حيث تركها، وعمل في شركة نفط محلية، «دايني أويل ساند بكايت»، تقع حقولها في كاليفورنيا وضواحي لوس أنجيليس. وعيّنته الشركة مديراً، وعهدت إليه بمراقبة الإدارة. فقضى 10 أعوام خالط أثناءها المفاوضين والملاكين، الأثرياء والطامعين في الكعكة الكبيرة، المحتالين العالي الكعب والمهيضي الجناح، من غير إغفال موظفي الدولة والشرطيين المقبلين على الفساد. وفي خضم هذا الخليط، يعرف الواحد الآخرين معرفة قريبة وفي معظم الأحيان فاضحة. ولا شك في أن الشطر الأول من حياة شاندلير هو تربة عمله الأدبي والروائي اللاحق. وهو غرف من الأشخاص واللقاءات والمنازعات، أي مما حفلت به حياته في العقد الثالث من القرن العشرين الكاليفورني، معرض الأشقياء العنيدين الذين خالطهم التحري الخاص، فيليب مارلو، طيلة الروايات السبع التي أدى فيها دور «البطولة» أو عهد إليه الكاتب بهذا الدور. واختبر شاندلير في هذا الشطر من حياته الخيبة التي أودعها بطلَه الأول على نحو رائع. فالعشرون سنة الفاصلة بين مجيئه إلى كاليفورنيا وبين بداياته الأدبية المتأخرة، في 1933 تاريخ نشر قصته القصيرة الأولى في مجلة «بلاك ماسك» (القناع الأسود)، شهدت انقلاب لوس أنجيليس من حال إلى حال. فبقي البحر والشمس على ما كانا عليه من قبل، ولكن آبار النفط انتشرت في نواحي الولاية وضواحي مدينتها الأولى، وازدهرت الصناعة، واصطفت السينما معقلها وبنت استديواتها في إحدى الضواحي. وفي 1913، مدّ رئيس المهندسين، ويليام مولهوللاند، قناة مياه الشفة على جسر مقنطر، وروى المدينة العطشى، وجعلها الحاضرة الكبيرة والمشهورة. فتعاظم عدد سكانها من 300 ألف في 1910 إلى 1.2 مليون في 1930. وترك انقلابُ البلدة الكبيرة حاضرةً صناعية واجتماعية مرارة مزمنة في قلوب سكانها وأهلها الذين كانوا شهوداً على انقلابها. وأورث شاندلير بطله مارلو هذه المرارة. وحين يتكلم مارلو على لوس انجيليس، ويتناول ضواحيها الخَلِقة والمهترئة، وأحياءها السكنية التي تحاكي فخامة كاذبة ومبتذلة، ومرابع ملذاتها، ولهوها وهواماتها، فهو يحيي ذكريات عشرين سنة قضاها الروائي مراقباً أطوار المدينة وتحولاتها. وفي مرآة روايته وأقاصيصه يرى القارئ أو يسمع أصداء حنين حاد إلى عصر ذهبي انقضى، وانقضت معه عذوبة حياة هاربة ارتدت لباس عراء ريفي وقبح محبب إلى القلب، على طرف نقيض من المظاهر الفاخرة التي اتخذت من المدينة قطبها العالمي وقلبها الخفاق. وأجرى شاندلير على لسان مارلو، في رواية «الأخت الصغيرة» وصفاً مثل هذا: «تجاوزتُ أضواء النيون الفاعلة على الواجهات، ومحالَ الهمبرغر الموسّخة التي تحاكي ألوان دهاناتها القصور السينمائية، وحلبات السيارات المستديرة والشبيهة بصحن سيرك يروح ويجيء فيها مهرّجون خائبون، والمطابخَ المغلّفة بشحم في مقدوره تسميم ضفدع (...) وراء حوض أنسينو، لاحت أضواء متفرّقة مثل نقاط متباعدة على الروابي، وتلألأت بين أغصان الشجر العالي، إنها بيوت نجوم السينما. النجوم، أي بله هذا. فهي شهدت رجالاً متعرّقين فوق ما شهدته ميادين الحرب». وبعض المعرفة الحميمة والدقيقة بالمدينة يعود إلى تغيير شاندلير، طيلة الأعوام ال 33 التي قضاها بلوس أنجيليس، مسكنه. وأحصى أحد كتّاب سيرته، فرانك ماكشيْن، فوق الثلاثين مسكناً تنقّل بينها صاحبنا، حين أقام مع والدته، فلورنس، ثم مع زوجته، سيسي. فلم يبق حي من أحياء المدينة لم ينزله الروائي البوليسي، أكان سانتا مونيكا أم فايرفاكس، باسيفيك باليسِّيْديس أو يونكرهيل، هوليوود أم بيفرلي هيلز. فألمّ بالشاردة والواردة، ورأى مباشرة بالعين المجردة انقلابها الضخم من طور إلى طور. وعلى هذا، فقراءة شاندلير اليوم لا تخلف في نفس القارئ الأثر الذي تخلفه رحلة على عكس تيار الزمن. وعندما يذرع مارلو الشوارع التي تعجّ بالناس يتراءى له أن العصر الذهبي انقضى منذ وقت بعيد. وحداثة الكتابة، في أعقاب 60 سنة، لا تنفك تدهش القارئ المعاصر. فريموند شاندلير هو، في المرتبة الأولى، كاتب فريد الأسلوب والأداء. وشاع في هوليوود أن اعتناءه ب «الحكاية» ضعيف. وسيرته المهنية، على رغم عوائدها المالية المجزية، كانت كارثة. وهذه شهادة على مكانة «الحكاية» في روايته، فهوليوود تعتني أفلامها بما تقصّه الروايات التي تتعاقد على إنتاجها وإخراجها مع كتّابها ومنتجيها. فبعد خلافات حادة مع ويلي وايلدر أثناء كتابة سيناريو «تأمين على الموت»، ومرجعه رواية جايمس آليْن، نشبت مشادة عنيفة مع هيتشكوك الذي عهد إليه بكتابة سيناريو «رجلَ قطار الشمال السريع المجهول»، المقتبس من رواية باتريسيا هايسميث. وعلى خلاف تهمة عمله السينمائي بالخفة، عرف باعتنائه الشديد بمخطوطاته، وانكبابه أشهراً على قراءتها وتصحيحها قبل إرسالها إلى ناشريه. واستعماله الكلام الشفهي العامي البالغ الدقة. وتندّد رسائل من غير شفقة بعاميّة مصطنعة يأخذها بعض الكتاب من «المعاجم». فيلاحظ أن الأشقياء والشرطيين يتداولون عبارات عامية سبق الكتابُ إلى ابتكارها ونحتها. ويمثل على قوله بعنوان مشهور يعود إليه، كنّى به ب «النوم الكبير» («بيغ سليب») عن الموت. وفي الرسالة عينها كتب مخالفاً الرأي الذي ذهب إليه للتو. فقال إنه يقدِّم على كل العبارات التي تعني «الرواح» (إلى حيث ألقت رحلَها أم قشعم: كناية عن الموت كذلك) عبارة ابتكرها رجل عصابات حقيقي، سبايك أودونيل، تجرأ على مقاومة كابوني وقتاله، هي «اترك حيث أنت» («بي ميسينغ»: زلْ عن موضعك»). وتقتضي ترجمة شاندلير إلى غير لغته، الإنكليزية الأميركية، موازنة مرهقة بين نقل المعنى ونقل العبارة. فهو يقول في لوس أنجيليس المنصرمة التي عرفها في سن الشباب إنها خسرت مذاقها أو صبغتها على شاكلة «بيْبركاب»- وهي كأس من كرتون مقوّى يكثر الأميركيون استعمالها ثم رميها - فينقل المترجم الفرنسي الاستعارة ويكتب «مدينة من غير طابع». ويكتب في موضع آخر من الرواية نفسها «الأخت الصغيرة»، مشبّهاً كاليفورنيا بمخزن كبير (مفرد «المخازن الكبرى») فيه «معظم كل شيء، وخير ما ليس بشيء» («ذي ماست أوف إيفريثينغ اند ذي بست أوف ناثينغ»). فينقل المترجم إلى الفرنسية «يوجد فيه كل شيء، وعلى الأخص خير الأسوأ». وهذا تقريبي، وأشبه بالتأويل. * مراسل، عن «ليبراسيون» الفرنسية، 23-24/11/2013، اعداد منال نحاس