هلال ونجوم بيضاء ونسر ذهبي وعبارات بيضاء على خلفية سوداء وأصابع صفراء وأخيراً أسود وأزرق وأبيض وأخضر ودائرة حمراء وكثير من الأفكار الحمقاء. هذه ليست مكوّنات وصفة سحرية لصرف «الإخوان» ليبرالياً أو دحر الانقلاب إخوانياً أو هدم الدولة اشتراكياً ثورياً أو الصيد في «الميّه العكرة» إقليمياً أو تأمين مصالح دولياً، بل هي خليط متنافر لفكر متضارب في زمن متداخل تميّز بطقس ربيعي قارس ورياح تغيير عاتية لم تكتف بهفهفة علم مصر ورفرفته فقط، بل بكت على أطلاله حيناً، وحاولت الإطاحة به حيناً، ثم الانتقام منه حين فشلت، وتدور وتعود من أجل النيل منه فتطمسه طمساً أو تحرقه حرقاً أو تعتدي على حامليه وتصم محبيه بالخيانة والعمالة والعداء للدين. ووقت كان الدين لله والوطن للجميع، وحين كان المصريون سواء في الوطن يتعرضون للظلم نفسه ويحلمون حلماً واحداً ويخفقون إخفاقاً متطابقاً بغض النظر عن الجنس واللون والدين، كان العلم أخضر بلون الوادي والدلتا بهلال أبيض وثلاثة نجوم هي مصر والنوبة والسودان. ورفرف هذا العلم في معارك المصريين ضد الاحتلال البريطاني بعد ثورة 1919، ورفعه الطلاب والعمال في العام 1946، وارتفع بعد جلاء القوات البريطانية عن قناة السويس، وحارب تحته المصريون في بورسعيد ضد العدوان الثلاثي في العام 1956. التاريخ الأبيض للعلم الأخضر فرض نفسه على الحلم الوردي في ثورة يناير، فظهر في جنبات التحرير، وتحدث عنه شباب الثوار، ورفعه الغارقون في حلم ثورة وإسقاط نظام ونقطة ومن أول السطر بناء دولة مدنية حديثة تساوي بين الجميع. وكما تبدد الحلم الوردي، تبخّر العلم الأخضر تحت وطأة سواد الليل الانتقالي وما أسفر عنه من غيام متأسلم، يكره بعضه العلم من أصله، ويميل البعض الآخر إلى نبذه وإحلاله وتبديله بآخر لا يعبّر إلا عن أهل وعشيرة، ويقترح فصيل ثالث الاكتفاء باللون الأسود في العلم الراهن وتعميمه ليكون علم مصر وراية الجهاد وعلم القاعدة ثلاثة وجوه لمرحلة واحدة. وعلى رغم أن العلم المصري لم يتغيّر بعد مرور نحو ثلاثة أعوام على ثورة نياير، وقيام ثورة ثانية، ومرحلتين انتقاليتين، وعام إخواني، إلا أن الوجوه السوداء للعلم المصري ما زالت تتحدث عن نفسها. فبينما شوارع المحروسة تشهد شراذم مسيرات الإخوان وشتات حرائرهن أيام الجمع والعطلات الرسمية وما تيسّر أثناء أيام العمل، تتضح وتنجلي الفجوة العميقة بين الأهل والعشيرة وشاراتها وعلاماتها وأعلامها من جهة وبين علم مصر بأحمره وأبيضه وأسوده ونسره الذهبي من جهة أخرى. مليونية «القصاص قادم» أول من أمس كانت باللونين الأصفر والأسود فقط. فشارات رابعة الصفراء وأصابع أردوغان السوداء هي السمة الوحيدة لتظاهراتهم ومسيراتهم المنددة بالجيش والسابة للشرطة واللاعنة للشعب المعارض لحكم الرئيس المعزول. وما ظهور الأحمر والأبيض والأسود في المسيرات سوى نذير لوقوع اشتباكات وتحذير من حدوث مواجهات. السيّدة التي لم يسعفها الوقت لتخطف علم مصر من يد ابنها الصغير وتخبئه قبل أن يلوّح به من نافذة السيارة التي تصادف مرورها وسط مسيرة «حرائر» إخوانية في حي مصر الجديدة يوم أمس. وبّخته وأبكته محذّرة إياه بأن «الناس دول لا يحبون علم مصر... فإياك واستفزازهم». استفزاز «أنصار الشريعة والشريعة» بعلم مصر يُلقي الكثير من الضوء على أولويات الجماعة. وبالأمس القريب كان ميدان التحرير يعمر ويتخم بلون واحد فقط ألا وهو الأسود مع قليل من الأخضر وذلك في «مليونيات الشريعة» المطالبة بتطبيق الحدود والمنددة بوجود أي تيارات أخرى غير الإسلام السياسي أو السياسة الإسلامية، أو المهددة المتوعدة لكل من يعادي منظوماتهم «القندهارية». وكم من مليونية هفهفت فيها أعلام «القاعدة» الرقطاء ورايات الجهاد السوداء مع قليل من أعلام «الإخوان» الخضراء في جنبات الميدان طاردة لأي قوى ثورية أو مجموعة شبابية أو جماعة مصرية لا تشبههم. ولأنه يخلق من الشبه أربعين، فقط اتفقت القوى الدينية وتطابقت المجموعات الإسلامية السياسية على مشاعر الحنق وأحاسيس السخط تجاه علم مصر بألوانه الثلاثة ونسره الذهبي. هذا الاتفاق ظهر وبان إبان عام من حكم الجماعة عبر تصريحات صحافية وأحاديث تلفزيونية ومطالبات حزبية بإلغاء «العلم الكافر» أو تغيير «العلم الفاجر» ليحل محله آخر يمهّد الطريق إلى الجنّة. ومن الجنّة إلى الدنيا، حيث عاش المصريون وعايشوا عاماً إخوانياً أطلقت خلاله أيادي فتاوى تكفير تحية العلم وتحريم الوقوف للسلام الوطني، وهو ما أدى إلى رد فعل عكسي بعد سقوط الجماعة وحلفائها. بائع الأعلام الرئيسي في منطقة الكوربة في حي مصر الجديدة في القاهرة يعرف أن تظاهرات الإخوان الحالية لا ترفع الأعلام المصرية، ويعرف كذلك أن عموم المصريين لا ينزلون تظاهرات هذه الأيام، ما يفترض أن يعني أن بضاعته ليست رائجة، لكنه يؤكد أن العكس هو الصحيح. «كثيرون يشترون الأعلام هذه الأيام لكيد الإخوان وغيظهم، فهم يضعونها في سياراتهم ويلقونها في شرفاتهم ليقينهم أن علم مصر يضايق الجماعة ويكدّرها... وهذا المطلوب». «المطلوب الآن هو الخروج بأفكار لعلم جديد بعد سقوط الانقلاب»! عنوان نقاش دائر على متن «تويتر» هذه الأيام بين أنصار الشرعية وداعمي الشريعة وحرائر رابعة وإخوة النهضة. جانب من الفكرة وراء الطرح هي الإيهام بأن الانقلاب على «الإرادة الشعبية» إلى زوال وأن الرئيس المعزول محمد مرسي «راجع القصر يوم الأحد العصر» على سبيل التعضيد المعنوي والتشجيع النفسي للاستمرار في مسيرات «هدم» دولة الحكم الجديد. أبرز الإبداعات المطروحة هي استبدال النسر الذهبي المتوسط للعلم بأصابع أردوغان الأربعة، «لا سيما أن النسر الحالي هو شعار وزارة الداخلية الفاجرة» وفق اكتشافات محبي الجماعة، والأفضل تغيير العلم برمته ليكون أصفر اللون وتتوسطه علامة رابعة رمز الصمود والعزة. آخرون تفتقت أذهانهم عن ألوان عجيبة غريبة ومعان عديدة مريبة، منها على سبيل المثال لا الحصر علم اقترحه الدكتور باسم خافجه حيث الأسود ثم الأزرق ثم الأبيض وبعده الأخضر وتتوسطها دائرة حمراء حيث يشير في تغريدة إلى أن «العلم الجديد بعد سقوط الانقلاب يعبّر عن النيل والأرض والأمل والتضحية». التضحية الكبيرة التي قدمتها مجموعة من صغار التجار في «ميدان الجامع» التجاري في شرق القاهرة بجمع الأموال وشراء علم ضخم لمصر عُلّق بين عمارتين ليظلل جزءاً من الشارع لم يكن إلا تعويذة لطرد مسيرات الإخوان وتميمة لحماية المنطقة من تظاهرات الحرائر، كما يؤكد أحدهم. ويضيف: «من كان يصدق إن علم مصر يؤرّق مضاجع مواطنين مصريين! أليس هذا الكره بكاشف لنيّاتهم ومعرّ لولاءاتهم؟!». ولاء الجماعة وولاء المصريين تحوّل العلم إلى وحدة قياس له. فما إن قام أحدهم بحرق علم مصر في ميدان التحرير يوم إحياء ذكرى محمد محمود قبل أيام، حتى افترض الجميع أن من حرق العلم إخواني، لأن أحداً لا يكره مصر وعلمها إلا «الإخوان وحلفاؤهم»، على ما يروج. وما ان كشفت المعلومات يوم أمس عن اسمه واتضح أنه قبطي، حتى امتلأت مواقع الجماعة وتغريدات الاخوة وتدوينات الحرائر طبلاً وزمراً وتشفياً وفرحاً في أن «من حرق العلم قبطي من بتوع السيسي»! وبين «بتوع السيسي» و «بتوع ربنا» يبقى «ناس بتوع مصر» يحترمون العلم بألوانه الثلاثة ويحبّون نسره الذهبي ويغضبون لحرقه سواء كان على يد هؤلاء الناس أو أولئك!