لاءات ثلاث تتجاذب البلاد والعباد. جماعات وقواعد تحشد وتهيج وتؤجج المشاعر وتضرم النيران من أجل ال «لا دولة». وشلل وقوى تخطط وتدبر وتعيد تدوير الدوائر وتكرر إنتاج المكائد من أجل ال «لا ثورة». وجماهير وأمم وحشود وأقوام تنظر وتنتظر، وترقب وتترقب، وتهفو وتحلم، وتتألم وتتوجع، وتتمسك بالصبر وتتحلى بالجلد من أجل ال «لا عودة». عودة غير حميدة إلى المربع الرقم صفر. «الناس بتوع ربنا» يحشدون الأتباع والأحباب والأصحاب، وأطهر من أنجبت مصر، وحرائر العفة والشرف والصمود، وأبناء وبنات الأخوة، وأقارب أنقى من فيك يا بلدي، وأصدقاء داعمي الشرعية، ومتعاطفي حماية الشريعة، وجيران داحري الانقلاب وكاسريه وداحضيه لمليونيات متواترة أحدثها لوّح أمس بأن «القصاص قادم». القصاص الحقيقي الذي عز على التطبيق وعصا على التحقيق على مدار عام من حكم «الإخوان» بات في الذاكرة المصرية الشعبية أقرب إلى أدبيات ثلاثة عقود من حكم الرئيس السابق حسني مبارك، حين غرق الجميع في بحور «إنجازات غير مسبوقة» حيث «بلدنا بتتقدم بينا» وشبع الكل من «ريادات غير معهودة» من منطلق «العبور إلى المستقبل»، وأتخمت الغالبية ب «نمو اقتصادي هائل» قيل للمواطن إنها «علشان خاطر أولادك»، وعرف المصريون ما يعرف ب «طفرات تنموية تاريخية» سُوّقت للمواطن نفسه باعتبارها «من أجلك أنت». وقف بعضهم في الشرفات متابعاً هتافات الحرائر وتهليلات الإخوة مطالبين بالقصاص للشهداء وهاتفين بأن الدم المصري حرام، وهو يعلم تمام العلم أن القصاص «الإخواني» مقصود به «شهداء الإخوان» وأن حرمانية الدم «الإخوانية» تقتصر على دماء «الإخوان»، تماماً كما كانت الإنجازات غير المسبوقة للحزب الوطني الديموقراطي إنجازات للشلة الحاكمة وطفراته الاقتصادية محظورة على غير الحظوة «البائدة». بدا أنه بائد لكنه ليس كذلك، بل هو بائج كالعرق المنتشر والمحيط بالجسد كله، فمحاولات أنصار الشرعية وحرائر الإسكندرية وإخوة السلاسل البشرية والشباب من عماد الثورية والكهول من حكماء الانتقامية والهادفة جميعها للوصول بمصر إلى مرحلة ال «لا دولة» لا يوازيها في القوة والبأس، والخطورة والبأس سوى محاولات طيور الرخ المنزوية والمختبئة للعودة بمصر إلى مرحلة ال «لا ثورة». وبين «لا دولة» و «لا ثورة»، تختلف الأدوات وتتعدد الوسائل وتتراوح الطرق، لكن تظل هناك غاية واحدة تبرّر الوسائل ما خفي منها وما ظهر. فالدفع «الإخواني» بمصر إلى «لا دولة» يخربها ويسقطها ومن ثم يزوّد الجماعة بفرصة ذهبية ثانية للاقتناص والانقضاض، سواء استخدمت في ذلك تعطيلات مرورية تخنق المواطنين، أو فتن داخلية تقتل المسلمين والأقباط، أو مخاطبات دولية تستدعي تدخلات أجنبية، أو مراسلات إقليمية تستحضر مساعدات مادية. والدفع البائد عبر رواسخ نظام سابق بمصر إلى «لا ثورة» يمضي قدماً في تلقين المصريين دروساً قاسية وعبرات فظّة في مغبّات الثورات وعواقب الاعتراضات ومساوئ التغيير وحرمانية الانقلابات على مقاليد الحكم «الوطني الديموقراطي». الديموقراطية التي كفر بها عموم المصريين شكلاً وموضوعاً هي التي دفعتهم أمس إلى التزام البيوت والتحصن خلف الأبواب وتأمين مداخل العمارات واستنفار «البواب» (الحارس) خوفاً من تحول «القصاص قادم» إلى خرطوش طائر وتخريب قائم وتدمير قاتل، وهي أيضاً التي سمرتهم أمام شاشات التلفزيون يتجرعون مرارة إعلاميين أمنيين يفرشون الملاءات لكل متشكك ويقدحون السباب لكل متخوف ويعلبون الاتهامات لكل معارض، حتى وإن ثبت بالحجة والبرهان، والثورة أو الانقلاب إنه لا «إخوان» ولا ثوار. ثوار البيوت الكامنون حيناً خوفاً من «مليونيات» عشرية ومئوية هادفة إلى «لا دولة» والمنطلقون حيناً إلى الشوارع طلباً لمهرب من تلويحات ومؤشرات بعودة الرخ والعنقاء بوجوه مختلفة وسترات مغايرة هادفين إلى «لا ثورة»، ليسوا أقل من المجموعتين صاحبتي اللاءاتين حيث «لا دولة» و «لا ثورة». فال «لا عودة» ملك لهم. لا عودة إلى حكم جماعة صاحبة أستاذية على بقية المسلمين، ولا عودة إلى نظام بائد صاحب أستاذية على بقية المصريين، إذ إن عموم الشعب مازالت حالمة أملاً بأستاذية المصريين. المصريون وقفوا أمس في حيرة من أمرهم، بين «قصاص قادم» لا يعنيهم، و «ثورة مستمرة» لا تؤرقهم، وقانون تظاهر لا يضايقهم، و «كمل جميلك» لا تكدرهم، و «لا للمحاكمات العسكرية» لا تشغلهم، و «لا لحكم العسكر» لا تخصهم، و «لا لدستور الإخوان» لا يكترثون لها، و «لا لدستور العلمانيين» لا يهتمون بها، و «لا لإقصاء فصيل وطني» لا تقلقهم. هَمُ المصريين وشغلهم الشاغل وحلمهم القائم يتركز الآن في دحر محاولات مخطط «لا دولة» وكسر مخططات «لا للثورة» وذلك تحت شعار «لا عودة»، حتى وإن ظلوا متخوفين من «سلمية» تظاهرات «الإخوان» ومتشككين في «صدقية» بقايا النظام الأسبق، ومتحيرين من نيات نظام قائم يقول وزير تعليمه إن الأمن استخدم رصاصاً «بيلسع» وليس خرطوشاً في فض اشتباكات جامعة القاهرة ويبدو رئيس وزرائه غير متأكد من هذا القانون ولا يعرف تلك الواقعة ولا يتذكر هذا القول ولا يدرك ذاك النص. وبينما كان الشباب ينظفون أمس منطقة المهندسين بعد انسحاب قوات الأمن، والجيش يغلق ميدان التحرير تحسباً لتظاهرات الإخوة والحرائر، والشرطة تستعد لتأمين رابعة استعداداً ل «سلمية الإخوان»، وسيارات الإطفاء تتخذ مواقعها في ميادين «القصاص قادم» لتطبيق قانون التظاهر حرفياً، والناشطون ينتفضون تغريداً وتدويناً جراء القبض على الناشط علاء عبدالفتاح، وطلاب هندسة القاهرة يعلنون تعليق الدراسة رداً على مقتل زميلهم أول من أمس، ومنظرو عصر حسني مبارك يعودون عوداً أكيداً عبر كتابات صحافية واستضافات تلفزيونية وتعيينات حكومية، كان المصريون يقطفون أوراق الوردة الواحدة تلو الأخرى ويتنبأون «لا دولة»، «لاثورة»، «لا عودة».