تقدم المأساة السورية المتواصلة منذ ثلاث سنوات أبشع الصور عن انتهاكات حقوق الإنسان، لم يشهد التاريخ الحديث نظيراً لها. في انتفاضة شعبية ضد نظام استبدادي يجثو على رقاب الشعب السوري منذ أربعة عقود، وفي مواجهة حراك سلمي للمتظاهرين، عمد النظام السوري إلى استخدام أقسى أنواع العنف والقمع في مواجهة شعبه. ها هي سورية اليوم، تقف أمام أكثر من مئية وخمس وعشرين ألف قتيل، وأكثر من نصف مليون جريح، وما لا يقل عن مئتي الف معتقل، وتشريد حوالى عشرة ملايين سوري إلى الخارج. إضافة إلى ذلك تتجلى المأساة أكثر في المجاعات والافتقار الى الحد الأدنى من مقومات الحياة، مما جعل مئات الآلاف في حالات صحية حرجة. أما الأكثر بشاعة فهو ما يتعرض له المعتقلون السوريون من تعذيب في أقبية سجون النظام، ومن تعرّض الآلاف الى الموت في هذه السجون، ناهيك عن الأخبار المرعبة عن الاغتصاب واستغلال النساء والأطفال والمتاجرة بالبشر. وقد جرى تتويج كل هذه الفظاعات باستخدام النظام للسلاح الكيماوي أربع عشرة مرة أباد فيها الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ. منذ لجوء النظام إلى استخدام أقصى وسائل العنف والتدمير ووضع الترسانة العسكرية السورية في خدمة قتل الشعب السوري وتدمير بنى البلد في جميع المناطق، ارتفعت أصوات، خصوصاً في المجتمعات الغربية وبعض الإقليمي منها، محذرة من «خطوط حمر» ضد انتهاكات حقوق الإنسان في سورية، مهددة بالتدخل لمنع حصولها استناداً إلى القرارات المنصوص عليها في المواثيق الدولية، واستناداً الى منظومة قيم أخلاقية وإنسانية تلتزم بها هذه الدول في علاقتها بسائر شعوب العالم. بدأ الحاكم التركي منذ الأشهر الأولى محذراً من أنّ بلاده لن تسمح ب «حماة» ثانية، في إشارة إلى مجزرة حماة التي ارتكبها والد الرئيس السوري الحالي عام 1982 وذهب ضحيتها حوالى ثلاثين ألف سوري، ولا يزال تهديد الرئيس أردوغان متوالياً على رغم حصول عشرات المجازر المشابهة لمجزرة حماة. ولم تتوقف تصريحات القادة الغربيين عن التحذير من ارتكاب المجازر والمس بحقوق الإنسان أو انتهاكها، ولم تسكت حنجرة الرئيس الأميركي عن الصياح بالتدخل العسكري لحماية لمعاقبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية. وعلى رغم الإنتهاك المتواصل، وتحذيرات المنظمات الدولية والإنسانية من الفظائع المرتكبة، فقد ظل الكلام «نظرياً» ولم يلامس مرة اتخاذ خطوات عملية لوضع حد لهذه الانتهاكات. ولعلّ الفضيحة الكبرى التي كشفت كذب وزيف ادعاءات قيادات المجتمع الغربي حول حقوق الإنسان، كانت في العملية الكبرى التي استخدم فيها النظام السلاح الكيماوي خلال شهر آب (أغسطس) الماضي، والتي ذهب ضحيتها أكثر من الف مواطن سوري دفعة واحدة. ارتفعت أصوات منددة بالجريمة الكيماوية، ترافقت مع خطوات عملية في حشد الأساطيل وتهيئة الجيوش لمعاقبة النظام السوري على فعلته. وإذا بالنتيجة تنكشف عن «همروجة إعلامية» نجم بموجبها إجبار النظام السوري على تسليم سلاحه الكيماوي و «العفو» عنه ومنع معاقبته جزاء هذه الهدية التي قدمها، وابتلاع الألسن واختفاء الكلام عن معاقبة المجرم. أثارت المأساة السورية، ولا تزال، أسئلة عن حقوق الإنسان، وهل هي حقيقة أم كذبة، أم شعارات موظفة في خدمة هيمنة استعمارية ضد شعوب تنتسب إلى مجتمعات نامية. لقد وصل الأمر بالبعض الى اعتبار حقوق الإنسان المنصوص عليها في الشرائع الدولية قيماً غربية استعمارية، وبذلك جرى خلط خاطئ بين هذه الحقوق الأخلاقية والانسانية، وبين سوء الاستخدام لها. لا شك في أنّ النص على الحقوق الإنسانية، منذ إعلانها في القرن الثامن عشر بعد الثورتين الأميركية والفرنسية، وتطويرها خلال القرن العشرين وشمولها كل مناحي الحياة، وإقامة منظمات لمراقبة تنفيذها، هذه الحقوق هي من أهم مكتسبات البشرية، وقد تحققت بفضل نضالات مجتمعات دفعت مئات الآلالف من الضحايا في صراعها ضد الاستبدادين السياسي والديني منذ القرون الوسطى حتى القرن العشرين، كما تشكل هذه الحقوق ذروة ما انتجه الفكر السياسي الحديث خلال القرنين التاسع والعشرين، وما أفرزته الحروب العالمية والإقليمية في هذين القرنين من ردود فعل تجاه التدمير للبشر والحجر. هذه الحقوق الإنسانية مكتسبات للبشرية جمعاء، وخصوصاً للدول التي لا تزال ترزح تحت حكم أنظمة استبدادية، على غرار ما هو سائد في العالم العربي، مما يدعو الى التشدد في رفع لواء التمسك بها وتطبيقها على هذه الشعوب. لكن وقائع التاريخ، الحديث منه والبعيد، تشير إلى أنّ أول المنتهكين لحقوق الإنسان كانت السلطات السياسية التي نادت شعوبها وناضلت للوصول الى هذه المبادئ. باسم تحقيق الحقوق الإنسانية، خاض الغرب حروباً استعمارية وقهر شعوباً واضطهدها من أجل السيطرة على مواردها وثرواتها. لعلّ أكذب الشعارات كانت تلك التي أطلقتها الإدارة الأميركية بعد هجمات أيلول (سبتمبر) في العام 2011، حيث وضع الرئيس بوش شعار حقوق الإنسان ضمن برنامجه الإحتلالي للعراق وأفغانستان، فيما شكل معتقلا أبو غريب وغوانتانامو أسوأ انتهاك لهذه الحقوق التي باتت في الممارسة تعذيباً وقتلاً واغتصاباً. ليس مبالغة اتهام قيادات الغرب بأنّ مفهومها لحقوق الإنسان لا يتعدى ما يجري داخل مجتمعاتها. أما الشعوب الاخرى، فالتطبيق العملي لحقوق الانسان، بالنسبة إليها، هو القهر والاستعباد والسماح بارتكاب المجازر. يحق للمرء ان يتهم هذه القوى الغربية بأنها لا تزال أسيرة نظرات عنصرية تجاه سائر الشعوب، وأسيرة عقد «الإنسان المتفوق» الذي يوجد فقط في أوروبا واميركا، فيما سائر الشعوب، وعلى الأخص منها شعوبنا العربية، شعوب لم تصل الى مستوى الإنسان الذي يستحق معاملته بالمثل، لأننا شعوب همجية وقاتلة لبعضها، بما لا يستحق التدخل لمساعدتها وخسارة الجنود لإنقاذها. * كاتب لبناني