«فينك يا مرسي؟ وحشتنا»... كانت هذه الكلمات اليتيمة باللغة العربية التي تلفظت بها السيدة الستينية الجالسة في المقاعد الأمامية على مدرج قلعة صلاح الدين الأيوبي التاريخية في انتظار بدء حفلة افتتاح الدورة 36 من مهرجان القاهرة السينمائي. وقبل أن ترتسم على سامعها ملامح التعجب أمام التناقض الواضح بين أناقتها البورجوازية اللافتة وبين «شوقها» الغريب هذا لرئيس لا يشبهها بشيء، أردفت لصديقاتها بفرنسية بدت حروفها أسهل على شفتيها: «هل كنتم تحلمون قبل سنتين أن نعود ونجلس هنا؟». ويقيناً أن في هذا السؤال، وإن بدا خارج اللعبة السينمائية، إنصافاً للدورة 36 من المهرجان القاهري الذي رغم كل ما يمكن ان يُقال حولها من افتتاح ضعيف او سوء تنظيم، استطاعت ان تعيد المهرجان بقوة الى الحياة بعدما غاب الدورة الماضية قسراً عن الخريطة السينمائية. وما الاحتياطات الأمنية المشددة التي رافقت حفلة الافتتاح الأحد الماضي ونقاط التفتيش الكثيفة الموزعة على مداخل دار الأوبرا المصرية حيث تقام العروض إلا وجه من وجوه الظروف الاستثنائية التي يُقام فيها المهرجان ومؤشر إلى تحديات كبيرة كان يمكن ان تعيق هذه الدورة من خارج السينما. من هنا لا يعود الكلام عن محاربة المهرجان ضرباً من ضروب الخيال او محاولة لاستدرار تعاطف مسبق بهدف غض النظر عن الأخطاء متى وجدت، إذ يكفي قراءة بعض الصحافة المصرية (خصوصاً القريبة من الإخوان ولكن بخاصة «روز اليوسف» التي لم يُعهد عنها تأييد للإخوان) وتحريضاته المستمرة ونعته المهرجان بأبشع الصفات من قبيل الإساءة الى الإسلام او اتهامه بأنه مهرجان الفسق والفجور (كل هذا قبل ان يفتح أبوابه ويشاهد احد منهم اياً من أفلامه)، للإحاطة بالمرحلة الجديدة التي تعيشها مصر والتحديات الكبيرة التي تواجه هذا الصرح السينمائي الأعرق في المنطقة. لهذا لم يكن ممكناً ان تعقد هذه الدورة من دون أن يكون للأوضاع السياسية الملتهبة تأثير فيها، كما لا يعود منصفاً النظر إلى هذه الدورة من دون الالتفات إلى المرحلة التي تجري فيها والتعقيدات السياسية والأمنية التي تحيطها. ومن هنا يصبح غير ذي أهمية سوء تنظيم من هنا أو خطأ إداري من هناك. المهم ان المهرجان عقد رغم كل شيء بإرادة وعزيمة كبيرتين. والأهم أنه في إمكانه أن يفاخر بأنه أعاد الجمهور المصري الى حضن الفنون، بعدما اكتظت به دار الأوبرا، بل وعجزت الصالات في أحيان كثيرة -خصوصاً في الفترات المسائية - عن استيعابه طوال هذا الأسبوع. كل هذا الجمهور جمهور متعطش للفن السابع، تحلم به مهرجانات عربية كثيرة لا تزال تصطدم بمأزق الصالات الفارغة رغم الإمكانات الضخمة والأفلام الكبيرة. جمهور علّمته ثورتا يناير ويونيو ان يقول لا من دون خوف، وأن يطالب بحقوقه ويرفض سياسة الأمر الواقع، بحيث لم يكن ممكناً مثلاً أن تمرّ حادثة مثل تلك التي صادفت بضعة شبان في المسرح الصغير الذي يتسع لنحو 320 شخصاً حين فوجئوا رغم شرائهم تذاكر لأحد عروض الأفلام في برنامج «آفاق السينما العربية» الذي تنظمه نقابة المهن السينمائية ووقوفهم في الطابور لدقائق، بإقفال باب الصالة في وجههم من دون إعطائهم مبرراً. لم يرضَ هؤلاء لتصرف رأوا فيه إهانة وطالبوا بحقهم، لا من اجل استعادة ال 20 جنيهاً التي دفعوها ثمناً للبطاقة - وبعضهم مزّقها احتجاجاً -، بل للتذكير وإن من دون ان يعوا ذلك حكماً، بمكسب من مكاسب الثورة، بدا انهم لن يتنازلوا عنه بسهولة بعدما كبّدهم مشقة كبيرة وأزهق أرواحاً بريئة. كانت فكرة احترامهم كمواطنين جاؤوا على الموعد ودفعوا ما هو متوجب عليهم وانتظروا في الطابور من دون أن يبالي بهم احد، هي التي تسيّر «انتفاضتهم» على صغرها. ولهذا حين عجزوا عن الوصول الى نتيجة امام تقاعس بعض الإداريين، لم يستسلموا بل ظلوا يقرعون الأبواب في وقفة احتجاجية الى ان خرج من يعتذر منهم ويبلغهم بأن المنظمين لم يتخيلوا أن تُقبل كل تلك الحشود على الفيلم، فوزعوا بطاقات أكثر من قدرة الاستيعاب، ولهذا امتلأت الصالة وحُرموا هم من حقهم في مشاهدة فيلم دفعوا ثمن بطاقة دخوله. هذا التفسير لم يرض الشبان او يجعلهم يتهاونون في المطالبة بحقهم. بعضهم سأل عن إمكان فتح محضر بالحادثة في قسم الشرطة بتهمة خداعه. وبعضهم ذكّر بأنه مواطن يدفع ضرائبه. وفريق ثالث صرخ بأن هذا كله لا يهمه، فهو هنا فقط لمشاهدة الأفلام. وعلى رغم اختلاف المواقف إلا ان الجميع اتفقوا الا يتحركوا من أماكنهم من دون ان يُسجلوا موقفاً بعد سجالات جاءت مثمرة، بحيث أفضت الى انتزاعهم بطاقات لعرض خاص للفيلم استُحدث من أجلهم تحت الضغط. التغيير بعد الثورة هذه الحادثة وعلى رغم انها تبدو تافهة امام الأحداث الكبيرة التي تمرّ بها «ام الدنيا»، إلا انها إن دلّت على شيء فعلى التغيير الإيجابي الذي أحدثته الثورة في أذهان الشباب الذي بات مدركاً ان السكوت عن أبسط التجاوزات لا يختلف عنه في أكبرها-... وأنه في إمكانه ان يُحدث كل الفرق. بل صار مؤمناً بأدوات تعبير علّمته إياها الميادين... والأهم لم يعد مستسلماً بل بات يعرف أن وجوده كإنسان يتعزّز متى عرف ان يحتج. فأن تقول «لا» يعني أنك موجود. أن تقول «لا» هذه الفرضية بالذات تبدو متسقة مع جوهر أفلام كثيرة تابعناها خلال الأيام الماضية من المهرجان القاهري الذي في إمكانه ان يُفاخر أيضاً بالجهد الكبير الذي يمكن تلمسه في برنامج العروض الذي اعتبره كثيرون الأفضل مقارنة بدورات كثيرة سابقة. «لا» للتمييز، شعار يرفعه الفيلم الوثائقي «عبر عدسات سوداء: الفوتوغرافيون السود ونشأة شعب» (إخراج توماس آلن هاريس) الذي يربط بين الكاميرا كأداة تغيير وبين وجود الأميركيين الأفارقة بعد سنوات من العبودية. وإذ يطرح إشكالية تبدو جديدة حول كيف يمكن شخصاً غير مرئي (نظراً إلى سنوات الاستعباد) أن يكون له وجود مرئي عبر العدسة الفوتوغرافية، يستعرض تاريخ كفاح الأميركيين الأفارقة ونضالهم من أجل الوجود. نضال لا يبتعد كثيراً عن نضال الأميركيين من أصول أفريقية يرصده الفيلم الروائي الأسترالي «بلد شارلي» (إخراج رولف دي هير) الذي يدور في فلك السكان الأصليين وحقهم في الوجود بعد محاولة السلطات تطبيق تشريعات تبدو غريبة عن بيئتهم، ما يفقدهم حريتهم إن لم يلتزموا بقوانين البيض. فإما الاندماج في المجتمعات الحديثة وإما السجن. الخوف من شبح تهجير السكان من بيوتهم او الأدق أكواخهم يخيّم أيضاً على فيلم «لقد جئنا كأصدقاء» (إخراج هيبرت سوبر) الذي تبدأ أحداثه قبل إعلان استقلال جنوب السودان عام 2011 ليرصد الأطماع الاقتصادية الغربية في واحدة من أكثر المناطق غنى بثرواتها الطبيعية في العالم، ويعكس التناقض بين غرب تسيّره مصالحه وسكان أصليين لا يريدون إلا حقهم في الوجود. ومهما كان من شأن هذا الفيلم فإنه لا يجد مكانه بسهولة في المسابقة الرسمية بالنظر إلى أنه تلفزيوني ويشكل أصلاً جزءاً من ثلاثية حول العبودية من الصعب أن يُفهم من دون جزءيها الآخرين. الحق في الوجود يسيّر أيضاً الفيلم الروائي الفلسطيني «عيون الحرامية» (إخراج نجوى النجار) المستوحى من قصة حقيقية نبشتها نجار من دفاتر الانتفاضة الفلسطينية عام 2002 لتقول من دون مواربة: المقاومة حق مقدس. مقاومة من نوع آخر ترصدها عدسة المخرج الألماني من أصول تركية فاتح أكين في فيلمه البديع «القطع» الذي يعيدنا إلى المجزرة الأرمنية، فيأخذنا في رحلة مع بطله بحثاً عما ضاع منه في عالم لم يرحم شعبه الذي تشتت في كل بقاع الأرض. الفقدان «تيمة» أساسية أيضاً في الفيلم المصري الوحيد في المسابقة الرسمية («باب الوداع» لكريم حنفي) الذي أفرط بتجريبيته في عمله «الروائي الطويل الأول» هذا، ليرسم صورة شاعرية للوجع الذي يخلّفه فقدان عزيز. صورةٌ من نوع آخر دقّت على وتر التيمة ذاتها (فقدان عزيز) في فيلم التحريك البرازيلي الساحر «الصبي والعالم» (آلي أبريو) الذي إذ يصوّر رحلة بحث طفل عن والده، ينفتح على عوالم تأسر المتلقي بقوة مشهديتها وآفاقها الواسعة. ولا شك في أنه ستكون في انتظار المشاهد المصري أفلام من الطينة ذاتها خلال الأيام المقبلة من المهرجان الذي سيختتم في الأهرامات، ولكن هذه المرة في إخراح يعد بأن يكون لافتاً طالما ان مصممه سيكون اللبناني المعروف وليد عوني. واللافت انه مثلما افتتحت هذه الدورة الأحد الماضي في معلم تاريخي كبير ستُختتم في معلم مماثل آخر في خيار ربما أريد منه التذكير بانفتاح القاهرة على العالم والقول إن الماضي يتفاعل مع الحاضر... وإننا لن نقطع يوماً الصلات مع تاريخنا أو نكتفي بالإرتكان إلى أمجادنا السابقة.