أجواء القاهرة ملبدة هذه الأيام. ضباب كثيف أربك حال الملاحة الجوية. انتخابات برلمانية قررت جماعة الإخوان المسلمين وحزب الوفد مقاطعة الجولة الثانية منها ما أثار أسئلة حول النتائج... ومع هذا في القاهرة عيد. ريتشارد غير وجولييت بينوش كانا هنا. عمر الشريف وليلى علوي ومحمود عبدالعزيز وحسين فهمي ومحمود ياسين ولبلبة ونادية الجندي ونبيلة عبيد جمعتهم مناسبة واحدة... ليس لها علاقة بممارسة واجبهم الوطني من خلال الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، كما قد يتوقع الذين يتابعون أجواءها الحامية، إنما كانت بكل بساطة احتفالاً بعيد السينما مع افتتاح الدورة ال34 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الثلثاء الماضي. نجوم من كل مصر ومن خارجها توافدوا على المسرح الكبير في دار الأوبرا. نجمات تبارين في الحصول على لقب صاحبة أفضل فستان في مجلات التابلويد. إبهار في الاستعراض الذي حمل توقيع اللبناني المقيم في القاهرة، وليد عوني، وفي الديكور الذي أعاد الجمهور القاهري الى زمن الفراعنة. تكريمات بالجملة، وعلى ثلاث دفعات: «تكريمات مصرية» شملت ليلى علوي ورمسيس مرزوق وصفية العمري. «تكريم مبدعين مصريين في الخارج» شملت ميلاد بسادا وخالد عبدالله وفؤاد سعيد. و «تكريمات أجنبية» شملت الكورية يون جونهي والانكليزي مايكل يورك والفرنسية جولييت بينوش والأميركي ريتشارد غير. الأخيران حصدا نسبة التصفيق الأكبر. تكلما كلمتين بالعربية المكسرة أثلجت صدر الجمهور القاهري. وزع غير القبلات على الواقفين والواقفات على خشبة المسرح الغارق في ألوانه الربيعية الفاقعة. نالت ليلى علوي حصتها. ولكن كانت الحصة الأكبر لمقدمة الحفلة أروى جودة، فبدل القبلة أتتها قبلتان، ما أثار من دون ريب غيرة عدد كبير من نساء الحفلة. أولم تطلب الممثلة داليا البحيري في مستهل الندوة التي أدارتها مع ريتشارد غير ان يكفّ الصحافيون عن هجومهم على النجم الأميركي الذي صُدم بتعرضه لتحرش من بعض النساء؟ ربما تكون كلمة تحرش زلة لسان ارتكبتها بحيري، والمقصود منها اهتمام زائد. ولكن هذا هو جمهور القاهرة. يحب السينما ويحب نجومها، خصوصاً حين يأتون من عالم هوليوود الى أرض الفراعنة. وفي هذا السياق أيضاً تندرج فكرة تظاهرة «مصر في عيون العالم» التي أثارت أسئلة كثيرة. الماضي والمستقبل ففي عالمي السياسة والسلوك الاجتماعي ثمة من يقول في أيامنا هذه ان الماضي يبدو في طريقه الى الانتصار على الحاضر كما على المستقبل. قد لا يكون هذا القول صحيحاً طالما ان المعركة لا تزال غير محسومة. لكن اللافت هو ان معركة من هذا النوع تدور أيضاً في عالمي الإبداع والفكر مع ان هذين وبالتعريف شأنان مستقبليان ينهلان حقاً من الماضي ولكن كي يصيغا أفكاراً وأحلاماً مستقبلية. غير ان ما يعزّي في هذا هو ان ما هو منتمٍ الى الماضي في الإبداع لا يتعلق بفرض نفسه على المفاهيم والإبداعات الجديدة بل يكاد ينحصر في استعادة القديم في مناسبات معينة. ومن ابرز هذه المناسبات، في الحياة الثقافية العربية على الاقل، المهرجانات السينمائية، إذ نلاحظ في السنوات الاخيرة ازدياد الاستعادات في تظاهرات يرى كثر انها تقام تعويضاً على ندرة الجديد من الافلام المرشحة للعرض. ليس الأمر جيداً بالطبع بالنسبة الى متابعي ما هو جديد، لكنه ليس على مثل هذا السوء بالنسبة الى محبي السينما التوّاقين الى استعادة بعض لحظات تاريخها، أكان على سبيل الحنين والعبرة أو الافتخار بنجاحات ماض ما. من هنا، فإنه ما إن أعلن عن تظاهرة «مصر في عيون العالم» حتى ثارت احتجاجاً وسوء فهم، ثم بعد اتضاح امرها اثارت ولا تزال سجالاً لا بأس به بين متفهم لمبرّراتها و «طرافتها»، ورافض لها لأسباب كثيرة منها اتهامها حتى من جانب بعض النقاد المصريين والعرب بأنها «شوفينية». ولكن ينسى أصحاب الاتهامات ان أفلام هذه التظاهرة من شأنها ان تضم الفن السابع الى تلك الظواهر - التي قد ينسبها بعضهم الى الاستشراق - والتي تكشف منذ سنوات وربما منذ قرون عن وجود نهم في أوروبا أولاً ثم في العالم لمعرفة – وأحياناً معايشة - صورة لمصر رسمت منذ أزمان بعيدة. وهي كما نعرف صورة رومنطيقية غرائبية كانت هي في أساس الولع بمصر الذي هيمن على بعض الآداب والفنون ولا سيما منها فن الرسم والأوبرا... وها هي التظاهرة السينمائية تأتي في قلب المهرجان القاهري واعدة على الأقل نظرياً بأن تكشف ان السينما في القرن العشرين لم تكن اقل احتفالاً بمصر وغرابة تاريخها وسحرها الرومانسي من الفنون والآداب السابقة لها. ويقيناً ان هذا البعد ينبع من معرفة متابعي فن السينما بأن مصر حضرت في السينما العالمية منذ بدايات السينما الصامتة ولا سيما مصر الفرعونية ثم مصر أيام الحروب النابوليونية (نسبة الى غزو نابوليون لمصر). لكن الغريب هو ان السينما انتظرت السنوات الأخيرة ومخرجاً إسبانياً شاباً (هو امينابار) قبل أن تقدّم واحداً من الأفلام الأكثر جدية و «مصرية»، اعني «آغورا» الذي يعود الى زمن مكتبة الإسكندرية! ولعل تلك المسيرة السينمائية الطويلة التي انطلقت من أفلام غرائبية حول «لعنة الفراعنة» لتصل الى واقعية ومنطقية «آغورا» المتحدث أساساً عن الفيلسوفة الاسكندرانية هيباتيا، هذه المسيرة إذ تقدم عبر أفلام تنتمي الى حقب وأفكار ورؤى متنوعة تبدو فائقة الأهمية. إذاً، انطلاقاً من هذا الواقع المرصود بقوة في تاريخ السينما كان من المتوقع طبعاً ان تأتي التظاهرة القاهرية بعروض كبيرة، ومن هنا الحديث عن أفلام موعودة. ولكن تكفي نظرة واحدة الى أفلام هذه التظاهرة حتى يخيب أمل كل من منحها ذاك البعد. فمن فيلم «شكاوى الفلاح الفصيح» (1970) الذي هو فيلم مصري مئة في المئة من إخراج شادي عبدالسلام الى فيلم «البحث عن ديانا» للمصري أيضاً ميلاد بيسادا الى فيلم المصرية ربى ندا «بتوقيت القاهرة»، يتبين ان ثلاثة أفلام من أصل ستة مشاركة في هذه التظاهرة إنما «تنظر الى» مصر بعيون مصرية لا بعيون غريبة كما يوحي عنوان التظاهرة! حتى وإن كانت مضامين الأفلام عن «مغتربين في القاهرة»... أياً يكن الأمر، كان يمكن هذه التظاهرة ان تكون أكثر فعالية لو شملت أفلاماً كبيرة حققت عن القاهرة بعيون الخارج، وما أكثرها. نذكر، مثلاً، إضافة الى «آغورا» فيلم «ارض الفراعنة» لهوارد هاوكس الذي وضع قبل عقود كتاباً صار كلاسيكياً عن تجربته في مصر بعنوان «هوليوود على أرض النيل»... وفيلمين حملا الاسم ذاته «كليوباترا»، الأول من إخراج سيسيل ب دوميلليه، والثاني لجوزيف مانكيفيتش من بطولة الثنائي الأسطوري اليزابيث تايلور وريتشارد بورتون. هذا عدا عن عشرات الأفلام الأخرى التي جالت في مصر وصوّرتها خالقة لها عبر الفن السابع غرائبية أو واقعية غالباً ما كانت في مصلحة مصر وتاريخها وجغرافيتها. دورة تاريخية! لكن التظاهرة لم تحمل شيئاً من هذا، بل أتت كما لو انها تمت بمن حضر وانطلاقاً من القول المأثور: شيء صغير افضل من لا شيء. انطلاقاً من هنا، إذاً، برز في النقاش الدائر في أروقة المهرجان منذ اليوم سؤال: إذا لم تتمكن هذه التظاهرة من ضمّ الأفلام الكبرى والأساسية التي كان يمكن ان تبرر عنوانها وغايتها، تُرى أفلم ينتصر أولئك الذين رأوا فيها محاولة للتعويض بالتاريخ على عدم قدرة المهرجان على استقطاب أفلام جديدة؟ الأكيد ان هذه التظاهرة تؤكد انه حان الوقت لاستعراض هذا التاريخ السينمائي الفذ، وليس ثمة ما هو افضل من المهرجان السينمائي القاهري لتقديم هذا كله حتى ولو جازف بأن يعتبره بعضهم شوفينياً، ويا حبذا لو استطاع ان ينجح في هذا المسعى. لكن، إذا كان المهرجان قد فشل في مسعاه هذا، فإنه في المقابل، نجح على الأقل وفي مجال آخر قد لا يكون أقل أهمية، في استقطاب ثلاثة أفلام مصرية الى ثلاثة برامج رئيسة متجاوزاً ما كان يتعرض له من فشل في هذا المجال في السنوات الماضية. أول هذه الافلام فيلم «الشوق» لخالد الحجر في عرضه الاول في مسابقة المهرجان الرسمية، أما الثاني فهو فيلم «ميكروفون» لأحمد عبدالله الفائز بجائزة «التانيت الذهبي في مهرجان قرطاج»، والثالث هو فيلم «الطريق الدائري» لتامر عزت، والأخيران من المشاركين في مسابقة الأفلام العربية. طبعاً، هذا ليس كل شيء، فالمهرجان لا يزال في بداياته، والجمهور القاهري على موعد مع 135 فيلماً من 70 دولة ومجموعة ندوات ولقاءات مع نجوم السينما وصناعها... من هنا لا يزال مبكراً الحديث عن فشل هذه الدورة أو نجاحها، ولا شك في ان محبي المهرجان الأعرق في العالم العربي يأملون ان يشاطروا عمر الشريف رأيه في هذه الدورة التي اعتبرها تاريخية. فهل ستكون كذلك؟