النظرة الكلية لمعنى الاضطراب في العلاقة الأميركية - المصرية تتجاوز قرار التعليق الجزئي للمساعدات، وتتضمن أبعاداً أخرى من أهمها التباين السياسي/ الثقافي في توصيف مجريات الأمور المصرية وفهمها، إلى جانب طبيعة عملية اتخاذ القرار في الإدارة الأميركية التي يحكمها بالدرجة الأولى استيعاب الضغوط المتناقضة في الداخل وفي الخارج. وليس بخاف على أحد أنه في الداخل الأميركي تيارات قوية في الكونغرس وفي الإدارة وفي الإعلام والصحافة من نادى وما زال بعقاب مصر عقاباً شديداً على جرأتها في الإطاحة بحكم الإخوان المنتخبين، ويرى في قرار التعليق الجزئي للمساعدات خطوة تكافئ من دون أن تعاقب الانقلاب والانقلابيين وفقاً للأوصاف التي تبرعت باستخدامها الأوساط الحليفة للإخوان شرقاً وغرباً. ولعل افتتاحية «واشنطن بوست» التي ترجمتها ونشرتها «الحياة» يوم 16 الجاري، تعكس هذه النوعية من التفكير الأميركي الاستعلائي الذي يرى أن المساعدات التي تقدمها الولاياتالمتحدة لمصر يجب أن تقترن بالانصياع الكامل للنصائح والإملاءات الأميركية، وإن لم يحدث فالعقاب واجب بأكثر من مجرد التعليق الجزئي للمساعدات كما أقرته إدارة أوباما كنوع من التوفيق بين رؤيتها لحماية المصالح الأميركية من خلال الحفاظ على مقدار معقول من العلاقة مع النظام الجديد في مصر، ودفع هذا النظام ليشكل بنية سياسية ديموقراطية تتوافق مع القيم التي تدافع عنها واشنطن. ومن يقرأ الافتتاحية يتصور أن مصر إحدى دول الموز وأن إرادة شعبها لا قيمة لها وأن القرار الصائب يصدر من واشنطن وعلى القاهرة الانصياع. ويبدو الذهول لدى كاتب الافتتاحية من جرأة وزير الدفاع المصري الفريق أول عبد الفتاح السيسي وشعبيته، وكيف أن الرجل أصبح يدير كل شيء في مصر، بداية من وضع خطة الانتقال المعروفة بخريطة المستقبل ومروراً بلجنة الخمسين التي يصورها الكاتب كلجنة «إمعات» تؤمر فتطاع لأن الجيش اختارها بدقة، ونهاية بوضع نظام فردي قمعي في الجديد يعيد سيطرة العسكريين وتحديداً الفريق السيسي على كل شيء في البلاد، بخاصة تعيين برلمانات شكلية. وتبشر الافتتاحية أيضاً بسقوط ما سمته نظام السيسي وفشله في تدمير الحركة الإسلامية بالقوة، لأنه يرفض الانصياع للنصائح الأميركية والأوروبية في التفاوض مع جماعة الإخوان، بعد أن ألقى بمئات من قياداتها في السجون وفق ما جاء في الافتتاحية، من دون أن يدرك الفارق بين مكونات الحركة الإسلامية وتناقضاتها وجماعة الإخوان كجماعة سياسية ذات تنظيم خاص لا يعرف حتى أعضاؤه عنه أي شيء. وتنتقد الافتتاحية مسعى الرئيس أوباما في إقناع ما تصفه حكومة السيسي في التقدم صوب الديموقراطية، فضلاً عن انتقاد الافتتاحية المذكورة الحكومة المصرية لأنها تجاوبت جزئياً مع أحد أهم المطالب التي رفعت منذ 25 يناير 2011 والمتعلقة برفع الحد الأدنى للأجور ومعتبرة الخطوة إجراء شعبوياً يتنافى مع الحس السليم الذي تقوم عليه النصائح الغربية. ولا يدري المرء كيف يمكن لصحيفة كبرى ك «الوشنطن بوست» أن تنشر مثل هذه الافتتاحية التي تعكس فقراً فكرياً وسياسياً على نحو مذهل، والأدهى من ذلك فقراً شديداً في المعلومات وعدم متابعة لما يحدث في مصر. فإذا كان الجيش في مصر رغم الشعبية الطاغية لوزير الدفاع غير قادر على أن يمرر مادة واحدة في الدستور تحمي هيبة الجيش وأفراده ومنشآته حين تتعرض للاعتداء على أيدي مدنيين، فكيف له أن يفرض على اللجنة التي تصوغ الدستور أن تضع نظاماً سياسياً تصبح فيه البرلمانات المقبلة مجرد ديكور يتلاعب به الفريق صاحب الشعبية الطاغية، في حين استطاعت مجموعات مدنية عدة ومؤسسات مختلفة في مصر من خلال التهديد والوعيد والحوار أحياناً أن تفرض مواداً خاصة بها في صلب مشروع الدستور، ولم يقل أحد إن في ذلك افتراء على حقوق المجتمع ككل وحقوق المؤسسات الأخرى. نعرف أن هناك من يرى 30 يونيو انقلاباً عسكرياً، متناغماً مع الدعاية الإخوانية التي تغلغلت في قطاعات إعلامية وسياسية عدة، لكن السؤال الذي لم يسأله أي من هؤلاء المحترفين إعلامياً أو سياسياً لنفسه هل يمكن أن يحدث انقلاب عسكري يشارك فيه 30 مليون مواطن وتكون خطواته معلنة قبلها بأشهر عدة، وتكون أيضاً خطة الطريق السياسية معروفة للجميع قبلها بشهرين؟ والمشكلة في العديد من المصادر الإعلامية الغربية والأميركية أنها أرسلت مراسلين إما هواة لم يقرأوا سطراً واحداً عن مصر وجاءوا ليغطوا حدثاً مثيراً وحسب، وإما محترفين يعلمون الكثير من دقائق الأمور المصرية ولكنهم مرتبطون بفكرة أن وجود رمز عسكري في جزء من الصورة يعني بالضرورة انقلاباً. كلا النوعين جاء إلى مصر ليس بهدف معرفة ما يحدث بمقدار ما جاء للكتابة من أجل قراء لا يعرفون شيئاً ومن ثم سيقبلون أي شيء. وكم أصابتني الدهشة مرات عدة حين جاء إلى مكتبي الكثير من المراسلين الغربيين من كلا الصنفين المشار إليهما، وارتبطت أسئلتهم بمعرفة المعلومات الأولية عما يحدث في مصر بأكثر من البحث عما وراء هذه المعلومات الأولية التي يفترض أنهم حصلوا عليها كجزء من الاستعداد المهني. ويحزن المرء كثيراً من تلك التقارير التي نشرت على ألسنة امرئ لم يقلها، أو من جزء منه لا يفيد أي معنى، ولكنه يخدم الشكل الإخباري القائم على تعددية المصادر. مهنة الصحافة التي تشكل الرأي العام في البلدان الغربية، أو الجزء الأكبر منه، قد نلتمس لها العذر نتيجة ضغط الأحداث وجهل المراسلين، ولكن كيف نلتمس العذر لمن نعرف أنه على مقدار من العلم والثقافة والحكمة السياسية. فمفكر مثل نعوم تشومسكي حين يصف في محاضرة أمام رابطة الطلاب المصريين في جامعة ماساسوشتس ما جرى في مصر باعتباره نوعاً من تغيير الأشخاص قامت به الولاياتالمتحدة، التي أطاحت الرئيس السابق مبارك لكي تعيد صناعة ديكتاتور جديد، فإنه يمثل قمة في التسطيح الفكري والسياسي غير المسبوق، فلا الولاياتالمتحدة ولا غيرها كان لهما الفضل في إزاحة مبارك، كما لا فضل في إزاحة جماعة الإخوان إلا للشعب المصري، الذي يبدو غائباً تماماً عن العقلية السياسية الأميركية. كما أن توقع تشومسكي بأن حرباً أهلية ستحدث في مصر يعني أنه مغيب تماماً أو على الأقل أنه فاقد التواصل مع تطورات الحالة المصرية، أو ربما مقتنع بالتحليلات الوهمية التي تنشرها المصادر الإخوانية المختلفة. وإذا كان شأن جرائد كبرى أو مفكرين كبار على هذا النحو يصبح تحرك إدارة أوباما أكثر عقلانية ووسطية، من المنظورين العملي والفكري، فعلى الأقل لم تستخدم الإدارة تعبير الانقلاب في وصف ما حدث، كما أن رسائلها المختلفة إلى الحكومة المصرية تنصبّ ناحية أن التعليق موقت ويمكن تغييره بعد اشهر قليلة، وأن الإدارة حريصة على العلاقات مع مصر كفاعل إقليمي مهم. ومع ذلك فإن الرسالة التي وصلت إلى إسماع المصريين جميعاً هي أن الولاياتالمتحدة شريك لا يعول عليه في الوقت الذي كان يجب أن يكون تصرفها أكثر إدراكاً لطبيعة الحرب التي تخوضها مصر مجبرة، وفي جزء من نتائجها سلباً أو إيجاباً ما يتعلق بمصير الإقليم ككل. وفي الوقت الذي تحارب السلطات كافة جماعات إرهابية غير مشكوك في إرهابها وعنفها في سيناء وفي الداخل، وتقوم واشنطن بما قامت به، تصبح الأبواب مشرعة على تحركات مختلفة على الأقل من زاوية حماية المصالح المصرية والأمن القومي. مصرياً يبدو هذا الاضطراب في العلاقة مع الولاياتالمتحدة محصلة ضرورية للثورة والتي تعني في أحد أبعادها الأمل باستعادة الريادة المصرية إقليمياً ودولياً من خلال إعادة النظر جذرياً في السياسة الخارجية المصرية، ومن بينها أسس العلاقة مع الولاياتالمتحدة، والتي تعتبر لدى اليساريين والناصريين وجزء من الليبراليين علاقة استتباع وليست علاقة ندية، وأن التخلص من المساعدات الأميركية من شأنه أن يحرر الإرادة المصرية بالكامل. وهؤلاء يرون أن الضرر الواقع من التعليق الجزئي للمساعدات بشقيها الاقتصادي والعسكري، حتى لو انتهى الأمر إلى قطع كامل هذه المساعدات الأميركية، فإن العائد السياسي والمعنوي سيمنح مصر حرية حركة في التواصل مع كل القوى الكبرى والصاعدة في العالم، وتمارس سياسة التنوع الاستراتيجي بمعناها الصحيح. وزير الخارجية المصري نبيل فهمي أشار إلى شيء من هذا، وإن بعبارات ديبلوماسية، معتبراً أن الاضطراب سيتلوه من المنظور المصري نوع من إعادة التقييم، بما له من انعكاسات شاملة على الشرق الأوسط ككل، ومؤكداً أن اعتبارات الأمن القومي المصري لا تهاون فيها سواء في سيناء أو في غيرها، وأن التنوع في أساليب حماية هذا الأمن مسألة مفروغ منها. وبالتالي فإن الاضطراب الراهن فتح أبواب التغيير في طبيعة العلاقة المصرية - الأميركية في المدى المنظور، وفتح أيضاً ثغرات يمكن لمن يريد، أن يمر منها لإقامة علاقات ومعادلات جديدة في الشرق الأوسط ككل، سواء روسيا أو الصين أو أي قوة عالمية أخرى. والأيام المقبلة حبلى بأمور كثيرة. * كاتب مصري