«أسوأ ما جرى لتونس منذ عقود طويلة هو ثورة جانفيي». قالت هذه العبارة الشابة التونسية سناء، شقيقة ياسين وهو شاب من بين مئات الشباب المقيمين في ضواحي العاصمة ممن توجهوا إلى سورية ل «الجهاد» هناك. وسناء شقيقة «السلفي المجاهد» هي كما معظم من قابلناهم من أهل «المجاهدين» في سورية، لا تمت للسلفية بصلة، وهي تشعر بأن فعلة أخيها فيها قطع مع نموذج في العيش وفي تدبير شؤون الحياة، لا تعرف العائلة سبيلاً آخر غيره. في اليوم الأول من عيد الفطر عام 2012، أرسل ياسين إلى أهله رسالة عبر هاتفه يُبلغهم فيها بأنه الآن في تركيا، وهو في طريقه إلى «الجهاد» في سورية. كانت الرسالة تتويجاً لمسار شخصي بدأ مع سقوط الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي. وهو (المسار الشخصي) في ضواحي العاصمة التونسية أشبه بانشقاق جيلي أقدمت على إحداثه آلة تجنيد هائلة تمكنت من اختراق مئات العائلات فجذبت شبانها المتنازعين بين البطالة والحرق (الهجرة عبر المراكب غير الشرعية إلى أوروبا). إنه «حرق» من نوع أخطر وأكثر راديكالية. هذا الاعتقاد لا يُغادرك وأنت تتجول في ضواحي تونس العاصمة، هناك حيث أقام الشبان السلفيون مناطق نفوذ لهم لا تستطيع الشرطة الوصول إلى بعضها. وهو انشقاق عن العائلات التي خرج منها فتية «الجهاد في سورية». فكما كان وصولهم إلى سورية عنيفاً ومحدثاً تصدعات في الجسم الأهلي هناك، فإن مغادرتهم منازلهم في أحياء التضامن ودوار هيشر وديبوزفيل وحي الزهور في ضواحي العاصمة، كان عنيفاً وأحدث ارتجاجات في بنية العائلة التونسية التقليدية. ويضاعف من شعورك في منازل عائلات «المجاهدين» بأنك حيال انشقاق عن العائلة ما تحمله احتجاجات الأهل من عبارات. في منزل ياسين أب متقاعد على شفير الانهيار وأم تريد أن تذهب إلى سورية للبحث عن ابنها الذي تعتقد أنه جريح فيها، وشقيقة غاضبة على الثورة وعلى أهل الثورة، وشقيقة أخرى أصغر سناً ارتدت النقاب في أعقاب ذهاب شقيقها المفضل إلى «الجهاد» في سورية. فيما الأخ الأكبر غائب في عمله ويُعطي تعليمات عبر الهاتف بعدم استقبال الصحافيين. الشقيقة تروي فصولاً من حياة شقيقها. تقول إن ياسين الذي التحق بال «جهاد» في صفوف «داعش»، كان شاباً عادياً غير متدين، تضج حياته بضروب السهر واللهو والعمل. وتقول إن الثورة حولت المنطقة، (دوار هيشر) إلى إحدى مناطق نفوذ حركة النهضة الإسلامية (الإخوان المسلمين)، وفي ظل هذا النفوذ تسلل السلفيون، وهم ليسوا من أبناء السلفية التونسية، إنما هم سلفيون غرباء حلّوا بين السكان ولم يقاوم قدومهم أحد. الحكاية نفسها تقريباً تتكرر على ألسنة العائلات المكلومة بأبنائها. بعد الثورة جاء السلفيون وأطاحوا إمام المسجد المعين من وزارة الشؤون الدينية وحلّوا محله في الخطابة وفي تدبير شؤون المسجد وفي العلاقة مع فتية الحي. لم يُقاومهم أحد، على رغم أن معظمهم غريب عن الأحياء. فالشعب للنهضة والشبان للتجنيد إلى سورية. وفي السنتين الأُوليين من عمر الثورة كانت هذه المعادلة تحكم معظم الأحياء الشعبية في المدن التونسية. والد ياسين المتقاعد كان ممن طُردوا من مسجد الحي، ذاك أن الرجل، وبسبب قرب منزله من المسجد كان يتولى خدمته لجهة مواعيد الأذان وحملات النظافة، وكان أيضاً في أوقات غياب الإمام يؤم المصلين. إلى أن جاءه السلفيون وطردوه من المسجد. لكن الكلام الحاسم لسكان الحي عن أن السلفيين الذين جاؤوا بعد الثورة هم غرباء بالكامل يعود لتُضعف منه حقائق أخرى. فمحمد وهو الغريب الذي قدم إلى الحي في أعقاب الثورة، جاء به ياسين إلى منزل أهله وتوسط له لكي يستأجر الطبقة السفلية من المنزل بقيمة 200 دينار تونسي (حوالى 130 دولاراً أميركياً). إنه أمير مجموعة مسجد أبو بكر في دوار هيشر، وهو تونسي جاء من فرنسا التي يقيم فيها أهله، وتزوج بتونسية واستأجر الطبقة السفلية من منزل أهل ياسين. تقول سناء إن المستأجر الجديد كان في حرب العراق. هذا ما قالته لها زوجته، فمحمد لا يُحدث النساء إلا إذا أراد تقريعهن. ولاحظت سناء أن المنزل المُستأجر كان خالياً من الأثاث تماماً باستثاء فراش، وقالت لها الزوجة إن ذلك تيمناً بزهد الصحابة وتقشفهم. يشير الوالد إلى أن أكثر من «سلفي غريب» قدموا إلى الحي وأقاموا فيه من دون أن يثير قدومهم حفيظة الشرطة التي تقيم مخفراً لها في مكان ليس ببعيد. كما يلفت إلى أنهم احتلوا المسجد من دون أن تتدخل وزارة الشؤون الدينية. لا بل يضيف أن محمد، أمير الجماعة، قام بضرب إمام المسجد وكسر أنفه، فتوجه الأخير إلى مخفر الشرطة ليتقدم بشكوى، فقال له الضابط: «الزم منزلك، وبدءاً من اليوم كف عن الذهاب إلى المسجد». حل «أنصار الشريعة» اليوم وبعد أن أعلنت الحكومة التونسية حل جماعة «أنصار الشريعة» انكفأ السلفيون الجهاديون عن الشارع. خمسة من أعضائها في الزقاق اختفوا، وأميرها محمد سيق إلى السجن، فيما كان توجه في شهر آب (أغسطس) من عام 2012 ثلاثة من أعضائها إلى سورية، اثنان منهم اتصلت الجماعة بأهلهما وأبلغتهم أنهما قتلا ودفنا في شمال سورية، فيما بقي مصير ياسين غامضاً. لكن الجماعة المحظورة تركت أثراً لها في الزقاق. إنهم شبان لم يبلغوا العشرين من أعمارهم أرخى من أتاح له عمره لحية صغيرة وحلق شاربيه وجلس عند زاوية المسجد. كانوا في السابق شبان «الحرق» على ما قال أيوب جارهم في الحي. وشبان «الحرق» هم أولئك الذين يُبحرون على نحو غير شرعي إلى أوروبا من التوانسة. ها هم اليوم سلفيون، أو أن جزءاً منهم سلفي. أطلقوا لحى غير معهودة في هذه الأحياء، وجلسوا ينتظرون أمراء «الحرق» الجدد. وأيوب يقول إن ظاهرتي «الحرق» و «الجهاد في سورية» مرتبطتان إلى حد بعيد، فحين يسهل التوجه ل «الجهاد» تتراجع حوادث المراكب الغارقة والمحملة بالشبان التونسيين المتوجهين إلى أوروبا طلباً للجوء أو عمل أو إقامة، وحين يُضيق على «المجاهدين» تزداد حوادث غرق المراكب. وفي أعقاب قرار الحكومة التضييق وإن شكلياً على المتوجهين ل «الجهاد» ارتفع مباشرة عدد القوارب الغارقة وهي متوجهة إلى الضفة الأوروبية من البحر المتوسط. ثمة أرقام يتم تداولها في ضواحي العاصمة ل «عائدات» الجهاد في سورية لا مجال للتدقيق بصحتها. فيُشار مثلاً إلى أن «المجاهد» يتقاضى قبل توجهه إلى سورية مبلغ 20 ألف دولار، وهو رقم كبير قياساً بمستوى الدخل في تونس، لكن من المرجح أن يكون مبالغاً فيه، ذاك أن لا أثر لتقاضي «المجاهدين» أو أهلهم هذا المبلغ. سعاد تقول إن محمد، أمير الجماعة التي جندت شقيقها وأرسلته إلى «الجهاد» كان يعيش حياة مُكلفة ولكنه كان بلا دخل معلن، وزوجته قالت لها إن راتباً يصله شهرياً من أهله في فرنسا. كان يملك أكثر من سيارة، وهو عمل مع شقيقها بتجارة الدراجات الهوائية، ولفتت إلى أن هذه التجارة بدأت برأسمال أمّنه محمد من مصادر لا تعرفها. لكن ربط ظاهرة «الجهاد في سورية» تونسياً بالوضع الاقتصادي لن يُفسر الظاهرة إذا ما اقتصر التفسير عليه، فإذا كان دوار هيشر منطقة سكن الفئات المتوسطة الدنيا، فإن الفئات المتوسطة العليا أرسلت بدورها «مجاهدين» إلى سورية. في منطقة المنزه، حيث تقيم الشرائح الفرانكوفونية في منازل وفلل، قالت أسمى إن عشرات من جيرانها ذهبوا إلى سورية. اثنان من أقاربها هما مهندس وطبيب غادرا تاركين زوجتين وأولاداً. عائلتاهما على ما تقول أسمى ترفضان الكلام، وقضيتهما في وجدانَي العائلة يختلط فيهما شعوران بألم الفقد وبشيء مُخفف من «العار»، ذاك أن خطوة الشابين لا تشبه ما تنتظره عائلات المنزه من أبنائها. إنه أيضاً شبه انشقاق عن العائلة التونسية وانضمام إلى عائلة أخرى. فالعبارة الوحيدة التي وافقت والدة الشاب المهندس على أن تقولها حين اتصلنا بها عبر الهاتف طلباً لموعد: «لا أريد أن أتحدث عن ابني. فقط أريد أن أراه لأسأله سؤالاً واحداً وهو ماذا قالوا لك حتى تتخلى عنا؟ كيف لا تتذكرنا وكيف لا نأتي على خاطرك؟». ظاهرة شعبية ومسألة شعور الأهالي والعائلات بنوع من «الخيانة» لموديل العائلة التونسية، قام به أبناؤهم الذين تحولوا إلى السلفية الجهادية وتوجهوا إلى سورية، أمر ملازم لمرارة الفقد التي تعبر عنها العائلات، ودائماً ما يعيدونها إلى قدوم الإسلاميين إلى أحيائهم بعد الثورة، فيختلط في كلامهم القلق على مصير الأبناء بخجل من شططهم. وينسحب الأمر على المنتقلين إلى السلفية غير القتالية من الشبان التونسيين، وهم على ما يبدو ليسوا قلة في البيئة المنتجة لأنواع مختلفة من التدين في تونس. أحمد مثلاً قرر أن يقيم بسطة لبيع لوازم السلفية من عطور وحناء ومنشطات عضلية وجنسية، وافترش ببسطته الأرض أمام مسجد الفتح حيث تنتشر بسطات السلفيين في قلب العاصمة تونس. يقول أحمد إن والده مر من أمامه يوماً من أمام البسطة ونظر إليه بشيء من الخجل والاحتقار وغادر من دون أن يُكلمه. ويبدو واضحاً أن السلفية كظاهرة شعبية وشائعة جديدة كل الجدة على المشهد التونسي، ذاك أن تفاوتات شديدة تُحدثها مجاورة مظاهرها لمظاهر الحياة التونسية العادية. فمن أمام مسجد الفتح حيث يقيم السلفيون سوقهم ويضربون حزاماً بشرياً حول المسجد، تمر شابات تونسيات حاسرات ومرتديات ملابس حديثة وكاشفة. هذا الاختلاط لا يُشعرك بأنك حيال مشهد إيجابي من التجاور والقبول، إنما هو ناجم عن فرز لم يحدث بعد، لكنه في طريقه إلى أن يُتم مهمته. فزنار الانتشار السلفي حول المسجد كان تولى قبل أشهر قليلة منع الشرطة من دخول المسجد لاعتقال «أبو عياض» وهو أمير جماعة «أنصار الشريعة» المتهمة باغتيال المعارض محمد البراهمي. في حينه تحول الباعة السلفيون إلى درع بشرية تولت تهريب «أبو عياض» من المسجد. مع العلم أن الأخير ما زال متوارياً. من الواضح أن مصادر مختلفة تتغذى منها السلفية التونسية بأنواعها الكثيرة. النزف الذي يصيب حركة النهضة الإسلامية عن يمينها يغذي السلفيين الجهاديين، وتساهل سلطة النهضة معهم وسعيها للاستثمار فيهم خارجياً (تسهيل ذهابهم إلى سورية) وداخلياً (التلويح بهم في مواجهة معارضيها اليساريين والعلمانيين) ساهما أيضاً في توسع الظاهرة. الجمعيات الخارجية التي تمول أنشطتهم و «هجرتهم»، ودور الفوضى التي تعيشها ليبيا المجاورة، يمكن إدراجهما في هذا الإطار. وهي بمعظمها عوامل استجدت بعد ثورة «جانفيي». لكن ثمة محطة أكثر حضوراً في تعداد أسباب الظاهرة، وهي قانون العفو العام الذي أصدرته الحكومة الأولى بعد الثورة، وهو ما أدى إلى الإفراج عن آلاف من «الجهاديين» الذين كانوا محكومين بأحكام كبيرة. والقرار قضى أيضاً بمكافأة المسجونين السياسيين عبر تفضيلهم في الوظائف المعروضة من الحكومة. ويقول أيوب إن جاره كان النظام السوري قد سجنه في أيام الحرب في العراق، حيث كان متوجهاً إلى هناك للقتال، وسلمه إلى سلطة زين العابدين بن علي، وأفرج عنه بعد الثورة فعاد وذهب إلى سورية للقتال هناك، وعاد بعد سنة ليجد وظيفة في وزارة الاتصالات بانتظاره. ياسين الشاب الذي من دوار هيشر صار له الآن في سورية حوالى سنة وخمسة أشهر. وهو كف عن الاتصال بأهله بعد ثلاثة أشهر من مغادرته. الشابان اللذان غادرا معه قتلا وفق ما أبلغت جبهة النصرة أهلهما، في الفترة نفسها التي توقف ياسين عن الاتصال بأهله. في حينها لم تكن «داعش» قد ولدت بعد. وفي الشهر نفسه الذي وصل فيه ياسين إلى شمال سورية كانت «جبهة النصرة» تنظيماً خجولاً في تلك المناطق. كان الأهالي في القرى والبلدات في شمال سورية يُسمون عناصرها بأسماء الدول التي قدموا منها. «هنا يقيم التوانسة» قال لنا رجل من سراقب، مؤشراً بإصبعه إلى مدرسة حولتها جبهة النصرة إلى مركز لها. أن تتذكر سراقب في محافظة إدلب السورية، وأنت الآن في حي هيشر في العاصمة التونسية وتتحدث مع شقيقة شاب غادر إلى سورية في الوقت نفسه الذي كنت أنت في سورية، فما عليك عندها سوى أن تستعيد وجه ذلك الفتى الذي انكفأ ما إن وصلنا إلى المدرسة قائلاً بلهجته التونسية: «ما نبغاش صحافة»، وأن تسأل سعاد عما إذا كان بحوزتها صورة لشقيقها فربما يكون هو من ظهر لنا في سراقب. الصورة التي في حوزة سعاد شقيقة ياسين كانت التقطت له قبل أن يلتحي. إنها صورته التي كم تمنت أن تبقى كما هي. الوجه مستطيل كوجه ذلك الفتى في سراقب، لكن ما تبقى من ملامح الشاب بعد أن أطلق لحيته لا يكفي لأكثر من شكوك ضعيفة. على المرء أن يُورط الأهل بأمل يبدو ضعيفاً، خصوصاً أن رفيقي الشاب قتلا، وهو من ذلك الحين كف عن الاتصال بأهله.