حسن، الشاب من مدينة حماة السورية، الذي كان منتظراً في مركز للجيش الحر في بلدة أطمة على الحدود مع تركيا، ليس إسلامياً، على عكس ما اعتقدنا، ذاك أنه أطلق لحيته الحمراء وحلق شاربيه، فقط لأنه يريد أن يفعل ذلك وليس لأنه إسلامياً. لم يكن صائماً، وهو اقترب من محدثته الصحافية على نحو ما لا يقترب الإسلاميون من الصحافيات. كان ينتظر غاضباً وصول من ينقله إلى الجهة الأخرى من الحدود، ويقول إنه متوجه إلى بلدة الريحانية التركية للقاء عضو في المجلس العسكري للجيش الحر. حسن طالب هندسة في جامعة بيروت العربية، وهو استدعي إلى الخدمة الإلزامية في الجيش السوري، الذي ما لبث أن انشق عنه والتحق بالجيش الحر في حماة. يقول: «أنا جندي في الجيش الحر لا أملك سلاحاً. أنتظر في المعركة أن يُصاب أحد أو أن يتعب لأستعير سلاحه. أريد سلاحاً، ولهذا أنا متوجه للقاء عضو المجلس العسكري في الجيش الحر». وحسن كان على عجلة من أمره، لم يشعر بأن سؤالنا عن لحيته، هو غير الإسلامي، يستحق انتظاراً. الأرجح أنه لا يعرف سبب إطلاقه لحية من دون شارب. استغرب السؤال، لكنه أجاب عن سؤال آخر بسرعة حاسمة، وكان السؤال عما إذا كان مناصراً لجماعة الإخوان المسلمين الذين تُعتبر مدينته حماة عاصمتهم في سورية، قال: «لا إخوان مسلمين في حماة، فهؤلاء غادروها في الثمانينات. تركونا لوحدنا في مواجهة هذا النظام، لا بل إنهم ورطوا المدينة بمواجهة وغادروا. لقد دفعنا ثمن تهورهم». لكن الإجابة عن سؤال اللحية من دون شارب، والتي بقيت معلقة في اللقاء السريع مع حسن، ستكون ضالتنا التي لن نعثر عليها طوال رحلتنا إلى ريفَي إدلب وحلب في سورية، ذاك أن منطق اللحية والمظهر الذي يرصد عبره المرء الملامح الأولى للجماعات الإسلامية وأنواعها وفروعها، يخضع في سورية إلى منطق مختلف. اللحية من دون شارب ليست إشارة أكيدة إى إسلامية المرء، وأحياناً لا تكون إشارة حتى إلى التزامه فروض الصلاة أو الصوم. والعكس صحيح، إذ إننا التقينا بعشرات من السلفيين لا يمتون لهيئة السلفيين الذين نعرفهم بصلة. بعضهم حلق لحيته وشاربه، وبعضهم أطلق لحية خفيفة غير سلفية، وجميعهم من دون استثناء لا يعتمدون الثوب الذي يعتمده السلفيون. تعتبر «كتائب أحرار الشام» الفصيل السوري الجديد الأبرز الذي يشيع خبر انتمائه إلى «السلفية الجهادية»، هذه الجماعة الجديدة التشكل والتكوين تنتشر في الكثير من المدن والقصبات السورية، وهي غير منضوية ضمن كتائب الجيش السوري الحر على رغم أن مسؤوليها يؤكدون أنهم يُنسقون أنشطتهم مع هذه الكتائب. و«كتائب أحرار الشام» جماعة سلفية على ما قال ل «الحياة» مسؤولها الشرعي في ريف إدلب أبو زيد، واسمه الحقيقي أسامة العبود. والعبود الذي قرر في اللقاء الثاني معه أن يكشف عن اسمه الحقيقي، يقول إن قائد «كتائب أحرار الشام» اسمه أبو عبدالله وإن أحداً لا يعرف اسمه الحقيقي ولا أين يقيم في سورية. الجميع، في ريفَي حلب وإدلب يتحدثون عن تمتع «كتائب أحرار الشام» بدعم خارجي. ويقول قائد كتيبة في الجيش الحر في سراقب: «الأحرار متقدمون علينا في تسليحهم وفي عتادهم، وهم لا يشاركوننا في كل الأعمال العسكرية، ويُفضلون أن ينفذوا مهمات تُخاطب الإعلام، ولهذا السبب احتلوا معبر باب الهوى على الحدود مع تركيا». وأبو زيد، المسؤول الشرعي في كتائب أحرار الشام شاب من مواليد عام 1987 درس الشريعة في جامعة حلب، يقول إن كثيرين من زملائه في الجامعة هم اليوم مسؤولون شرعيون في الكتائب، وهو إذ أكد في اللقاء الأول أن جماعته سلفية في العقيدة، لم يشأ أن يجيب عما إذا كانت سلفية في الممارسة، على رغم تأكيده «جهادية كتائب أحرار الشام» ما يعني أنهم ليسوا من السلفية التقليدية التي تتجنب العمل العام و«الجهاد بالسلاح». لا ينفي أبو زيد وجود «متطوعين» غير سوريين في الكتائب لكنه يؤكد أن نسبتهم قليلة إذا ما قورنت بوجودهم في كتائب أخرى. وهو يرفض الإجابة عن سؤال ما إذا كان يعني بالكتائب الأخرى جماعة «النصرة» التي يقول معظم سكان ريف إدلب إنهم قريبون من تنظيم «القاعدة» وإن بينهم مقاتلين غير سوريين من ليبيا والأردن والسعودية واليمن. لكن المتجول في ريفَي حلب وإدلب لن يشعر بأن «كتائب أحرار الشام» هي جماعة نخبوية منكفئة عن الممارسات الاجتماعية اليومية للناس في المدن والقرى السورية، على نحو ما تفعل الجماعات السلفية الجهادية التي عهدها المرء في مناطق أخرى من العالم. يشعر المرء بأن هؤلاء هم ممثلون للإسلام التقليدي وللممارسة الدينية الاجتماعية الشائعة والسائدة منذ ما قبل الثورة، وإذا ما بالغ المرء يمكنهم أن يقولوا إنهم يمثلون هذه الممارسة في لحظة تكثيفها وشحنها سياسياً، وهم لا يضيفون للطقس الديني الشائع ما يزيد عنه أو ما هو غريب عنه. هذا الأمر الذي غالباً ما يمارسه الإخوان المسلمون في المجتمعات التي ينتشرون فيها، تفعله هذه الجماعة في ريفَي حلب وإدلب، ذاك أنه لا أثر ظاهراً للإخوان المسلمين في هذه المناطق على مختلف الصعد. يقول أمجد وهو حلاق رجالي وجندي في الجيش الحر في بلدة بنش إنه لا يتحفظ عن انتماء شقيقه الصغير أحمد إلى «كتائب أحرار الشام»، ف «الجميع يريدون أن يُقاتلوا، وجميعنا نصلي»، أما أحمد الذي يبدو أنه لا يميز بين سلفي وغير سلفي في إيمانه والتزامه، يقول إنه لم يُطل لحيته لأن «الكتيبة لم تُبلور بعد هويتها الدينية» ولم يُطلب منه ذلك حتى الآن. ويقول إنه يتقاضى راتباً متواضعاً نتيجة تفرغه للعمل في الكتيبة، يكفيه مصروفاً شخصياً، خصوصاً أنه لا يُدخن، في حين يُشكل التدخين عبئاً أساسياً لأصدقائه من الشباب. من الواضح أن إشارة أحمد إلى أن جماعته لم تبلور بعد هويتها كجماعة إسلامية سلفية، تجد صداها في الكثير من وجوه أداء الجماعة. فها هو منشد التظاهرة في بلدة جرجاناز أنس حامد المنتمي إلى كتائب الأحرار حليق اللحية ويُقدم ماءً لضيوفه في يوم صيامٍ، ويقول إن جماعته سمحت له بالغناء في التظاهرة لضرورات الثورة. وأنس الذي التقيناه في التظاهرة الكبيرة التي كان يقودها، كان شقيقه قُتل في اليوم السابق عندما دخل خطأ في منطقة يسيطر عليها الجيش النظامي. وعناصر «كتائب أحرار الشام» متفاوتو الالتزام وقليلو الانسجام في مظهر واحد على ما يفترض انتماؤهم إلى جماعة «سلفية جهادية». إنهم من سوريي الداخل الذين لم تتح لهم خبراتهم المحدودة في العمل «الإسلامي» احتكاكاً بخبرات «السلفية الجهادية» العالمية، وهم في الوقت نفسه طامحون لوراثة جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما يدفعهم إلى تفادي الانكفاء بمظاهرهم وأنشطتهم عن المؤمن العادي من السوريين وعن ممارسة طقس ديني تقليدي قد لا ينسجم مع الطقس السلفي في الممارسة، مع الإبقاء على «العقيدة» حبيسة النوايا، على ما تتيح السلفية من تقية. الراية التي اختارتها كتائب الأحرار علماً لها استبدلت فيها اللون الأسود باللون الأبيض في راية تنظيم القاعدة السوداء، ولم تُجرِ تعديلاً آخر، ويبدو أن ذلك جزء من الحيرة والاضطراب في هوية الجماعة. فالكتائب قررت أنها جزء من مشهد قتال النظام السوري، وهو ما يملي عليها اتصالاً بأطراف في هذا القتال أكثر انتشاراً وقبولاً منها، وهي أيضاً تسعى إلى تمثيل الإسلام كممارسة يومية وكطقس اجتماعي ديني مع ما يملي ذلك من تفادي الاصطدام بتقاليد الناس وبعاداتهم، ما يعني أننا حيال جماعة سلفية ساعية للاستثمار في مزاج شعبي، وهو أمر جديد، ذاك أن تنازلات جوهرية من المفترض أن تقدمها هذه الجماعة في سياق اقترابها من «إيمان الشعب». لكن، في مقابل هذا الميل ثمة مؤشرات أخرى قد تُفضي إلى انكفاء «كتائب أحرار الشام» إلى السلفية المعهودة في مناطق أخرى من العالم. إذ يبدو أن خطوطاً بدأت تتفتح مع «شقيقات» للكتائب من خارج سورية، وهو ما قد يُفقد الجماعة بعضاً من هويتها المحلية، وهو ما يعني أن بدء تسرب اللحى والأثواب الأفغانية قد يحدث. ولعل خبر انشقاق مجموعة من «كتائب أحرار الشام» والتحاقها في جماعة «جبهة النصرة» الواضحة الوجهة السلفية الجهادية يبدو مؤشراً إلى بدء وصول «السلفية العالمية» إلى الكتائب. هذا الانشقاق حصل في مدينة سراقب، حيث ل «جبهة النصرة» مقر في مدرسة تضمها إلى كتيبة أخرى من الجيش الحر. ويقول سكان في المدينة إن مقر «جبهة النصرة» يضم مقاتلين غير سوريين، ويُرجحون أن يكونوا من ليبيا. والانشقاق مؤشر في البيئة «السلفية الجهادية»، ذاك أنه المصير المحتوم الناجم عن «اكتمال السلفية» في جماعة غير مكتملة السلفية، فالأخيرة تدعو مريدها إلى الذهاب في إيمانه إلى أقصى النصوص، وهو ما يُفضي به لاحقاً إلى اعتقاد بتخاذل الجماعة عن اللحاق به، وسرعان ما يشرع بالبحث عن جماعة أخرى أكثر تشدداً. من السهل أن تُصاب «كتائب أحرار الشام» بهذه المعضلة نظراً إلى هشاشة سلفيتها، ويبدو أن الطريق الوحيد لتفادي الانشقاق هو مزيد من الالتزام بالسلفية كنموذج كامل. لكن، ثمة أيضاً شقوق محلية يمكن أن يتسرب منها الموديل العالمي للسلفية الجهادية إلى إدلب وحلب وريفيهما، تتمثل بالتجربة العراقية للكثير من الناشطين الإسلاميين من أبناء المنطقة. من سراقب وحدها قُتل ما لا يقل عن خمسة عشر شخصاً خلال سنوات «الجهاد في العراق» ويبدو أن عشرات آخرين ما زالوا على قيد الحياة، أمضى بعضهم سنوات في السجون السورية بعد أن اضطربت العلاقة بين النظام السوري وبين «المجاهدين في العراق»، ويبدو أن كثيرين من هؤلاء هم اليوم أعضاء في «جبهة النصرة» أولاً وفي «كتائب أحرار الشام» ثانياً، وهؤلاء احتكوا في العراق بخبرات «عالمية» في السلفية الجهادية، وهم مرشحون لأن يلعبوا دوراً في تزويد «المجاهد المحلي» بأذواق واعتقادات وطقوس. لكن يبدو واضحاً للزائر أن الريف السوري ليس بيئة نموذجية لغير الإيمان المحلي، وهو لن يستدخل بسهولة الموديل السلفي. فهذه المدن الصغيرة والبلدات والقرى غير صارمة في ممارساتها اليومية، وقد يشعر المرء بأن النساء منكفئات في منازلهن لكنهن غير مقصيات ولا أثر في المشهد لمنقبات. لا فصل بين الجنسين في المنازل، والمجتمع الزراعي أخلى دوراً للمرأة في العمل. من المرجح أن تتولى المدن الكبرى مهمة ضخ «الإيمان الجديد» إلى الأرياف، ويبدو أنها فعلت ذلك في الحقبة التي سبقت الثورة، فها هم مفتو «كتائب أحرار الشام» وقد جاء معظمهم إلى هذه البيئة الريفية من معاهد التعليم الديني في حلب وحماة، مزودين بغير النموذج المحلي في الممارسة الدينية، وبقابليات مختلفة ومتفاوتة لنقل خبراتهم إلى الريفيين.