من الصعب المرور على القرار الأخير الذي اتخذته واشنطن والقاضي بخفض جزئي لمساعداتها العسكرية إلى مصر، من دون الكثير من علامات الاستفهام حول طبيعة القرار وحقيقة استهدافاته في هذه المرحلة بالذات، فخطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في افتتاح دورتها لهذا العام، أوحى بأن هناك تفهماً للحدث المصري، إذ اعتبر أن دور العسكر في الثورة الثانية، إذا صح التعبير، لم يكن انقلاباً. غير أن تراكم المواقف الأميركية الأخيرة، وأداء الإدارة تجاه الأحداث التي تشهدها المنطقة، أعطى القرار الأميركي الأخير تجاه مصر دلالات ينبغي التوقف عندها. هذا القرار - الموقف، أعادني بالذاكرة إلى مقابلتين منفصلتين أجريتهما، الأولى مع المؤرخ الكبير برنارد لويس عام 2006، والثانية مع رئيس الإدارة المدنية في العراق بول بريمر بعد نحو عامين. في إجابته عن أسباب بداية التعثر الأميركي في العراق قال لويس «إن الخشية لا تأتي مما يجري في العراق، بل ينبغي أن نخشى مما يجري في واشنطن». وحين سألت بريمر عما إذا كانت واشنطن على دراية بأوضاع العراق قبل الحرب قال، «دخلنا العراق ونحن نجهله». كررت السؤال وأضفت: على رغم مئات مراكز الأبحاث وآلاف الجامعات والكثير من أجهزة الاستخبارات؟ قال: نعم! التمعن بما قال لويس وبريمر، يقودنا إلى ضرورة أن نتوقع الأسوأ من السياسة الأميركية تجاه المنطقة. قد يقول البعض إن إطلاق هذا النوع من الأحكام ينبغي أن يأخذ في الاعتبار عوامل أخرى، تطرح إمكانية أن تكون السياسات الأميركية تجاه قضايا المنطقة هي عن سابق إصرار وتصميم، خصوصاً أن النتائج الكارثية لهذه السياسات كانت ولا تزال تصيب كياناتنا. إن متابعة سريعة للتيارات في الإعلام العربي غير المعادي للولايات المتحدة، تساعد على إدارك حجم وعمق مشاعر الخيبة التي تشعر بها النخب العربية الليبرالية التي كانت محسوبة، وأحياناً متهمة، أنها حليفة أو صديقة لأميركا. قرأنا أخيراً دعوات إلى ضرورة الشفاء من وهم الحليف الأميركي، ودعا البعض الآخر العالم العربي بعامة، ودول الخليج بخاصة إلى «تقليع شوكها بيدها»، كما هو لسان حال الكاتب محمد الرميحي في حديثه أخيراً إلى إذاعة «صوت لبنان 100.5». وعلى رغم أننا لسنا في صدد توثيق المواقف والتحليلات التي تشرح أخطار السياسة الأميركية، ليس على الحلفاء والأصدقاء وعلى المنطقة، بل على مصالح واشنطن نفسها، إلا أن ذلك يدفعنا إلى محاولة الإجابة عن الأسئلة الآتية: 1- هل صحيح أن أميركا تتخلى عن أصدقائها من دون أن تكسب أعداءها، وهل هذا النهج طارئ على السياسة الخارجية الأميركية؟ 2- هل صحيح أن هناك قناعة أميركية حقيقية بأن استقرار المنطقة بعد سقوط الأنظمة الاستبدادية هو في يد الإسلام السياسي المعتدل؟ لا إجابات حاسمة عن هذه الأسئلة، لكنها محاولة تستحق العناء. لكن، وقبل الدخول في أي مراجعة للسياسة الأميركية في هذا المجال ينبغي لنا استثناء إسرائيل، الحليف الثابت والأكيد والاستراتيجي لواشنطن. فمنذ حرب فيتنام في السبعينات والتي انتهت بسقوط سايغون والخروج الأميركي غير المشرف، يحسب البعض أن أميركا هزمت على صفحات «نيويورك تايمز» و «واشنطن بوست» قبل أن تهزم على أرض فيتنام. وفي الثمانينات، لن ينسى اللبنانيون كيف ترك لبنان إلى مصيره بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 والذي أدى إلى اتفاق 17 أيار (مايو) 1983، وخروج القوات الأميركية والقوات المتعددة الجنسية على رؤوس الأصابع كما وصفها آنذاك رئيس تحرير «النهار» ميشال أبو جودة، إثر الهجوم على قوات المارينز قرب المطار وعلى مقر القوات الفرنسية. ترك لبنان بعدها فريسة للنظام السوري وحليفه الإيراني لأكثر من 25 سنة. أما في التسعينات، فقد ترك شيعة العراق المنتفضين على صدام حسين بعد إخراجه من الكويت لمصيرهم أمام وحشيته، ولم يرف جفن للولايات المتحدة التي اكتفت يومها بتحرير الكويت من الاحتلال العراقي. عادت الولاياتالمتحدة بعد 13 سنة إلى اجتياح العراق وخلعت صدام حسين ثم ما لبثت أن هرولت للخروج، وسلمت بغداد للهيمنة الإيرانية. أما الحركة الخضراء في إيران، فكان التخلي الأميركي عنها مدوياً ولا يزال. وفي حين تطالب واشنطن بإطلاق الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي، وتخفض حجم مساعداتها العسكرية إلى مصر، لا يزال مير حسين موسوي ومهدي كروبي، من قادة الحركة الخضراء في إيران، قيد الإقامة الجبرية. وها هي تسعى إلى التطبيع مع إيران وتطمئن النظام على مصيره شرط التفاهم على صفقة في الملف النووي. أما في الشأن السوري، فحدث ولا حرج، ولسنا بصدد تكرار آلاف المقالات والتحليلات التي تساءلت عن أداء السياسة الأميركية تجاه الثورة السورية، حتى وصل الأمر إلى إشادة وزير الخارجية الأميركي جون كيري بالرئيس السوري بشار الأسد «المتعاون» إلى أقصى الحدود لتفكيك الترسانة الكيماوية التي لطالما نفى وجودها! ظلت واشنطن حتى الشهر الرابع أو الخامس من الثورة السورية، تعتبر، وفق وزيرة خارجيتها السابقة هيلاري كلينتون، أن الرئيس السوري بشار الأسد إصلاحي، في حين أن صفة الإصلاح لم تنطبق على الأسد الأب ولا على الابن من دون الحاجة إلى الثورة في سورية. واشنطن لا تحتاج إلا لمراجعة بسيطة وسريعة لسجل «الأسدين» مع اللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين قبل السوريين لإدراك هذا الأمر. المحطات التي استعرضناها تظهر التخلي الأميركي عن حلفاء أو أصدقاء أو ليبراليين أو طلاب حرية واستقلال أو قوى علمانية أو قومية لمصلحة مستبدين أو أصوليين متطرفين. وعما إذا كانت واشنطن تعتبر إن الإسلام السياسي المعتدل هو مفتاح الاستقرار في المنطقة، لعل الإجابة تصبح أسهل إذا طرحنا السؤال في شكل آخر: هل واشنطن ارتاحت أو ترتاح إلى التعامل مع القوى الليبرالية أو القومية أو العلمانية؟ قيل الكثير في واشنطن إن هذه القوى هامشية وليس لها حضور شعبي مؤثر، على عكس القوى الإسلامية على اختلافها. وعلى رغم أن في هذا القول الكثير من الصحة إلا أنه يشير إلى الإهمال التاريخي لتلك «القوى المهمشة» وإلى الخشية الأميركية من معظمها. وفي السياق نفسه، تجدر الإشارة إلى أن مراقبة الأداء الأميركي على مدى عقود وفي أكثر من منطقة، تكشف جنوحاً أميركياً شبه تقليدي للتعامل مع الأقوى على الأرض. وعليه يصبح مفهوماً أن تطمئن واشنطن لمحمد مرسي أكثر من المعارضة الليبرالية، من عمرو موسى وحمدين صباحي وحتى محمد البرادعي. وفي العراق تفضل واشنطن نوري المالكي على أياد علاوي، فيما تخشى في سورية من ميشال كيلو وبرهان غليون وعبدالباسط سيدا وأمثالهم، ولا تزال تسعى إلى تسويات وأنصاف الحلول مع نظام الاستبداد فيها! أما في لبنان، فالواقع يحاكي أوضاع المنطقة، والخشية هي من أن تصدق توقعات عدد من كبار المحللين في مراكز البحوث الأميركية، بأن تسوق واشنطن للتفاهم مع «حزب الله» كعنصر من عناصر التسوية مع ايران، شرط تحييد إسرائيل، وليفعل الحزب ما يشاء في لبنان. هذا ما أنجزه على أي حال القرار 1701 وهذا ما استكمله اتفاق الدوحة وما تلاه من انقلاب على حكومة سعد الحريري خلال لقائه سيد البيت الأبيض! لا نعلم لماذا تغامر أميركا برصيد علاقاتها التاريخية مع قوى عربية أساسية كمصر والسعودية والتي قامت على مصالح استراتيجية ترتبط باستقرار المنطقة ككل، بينما تلهث وراء إيران في محاولة لفتح باب المفاوضات حول النووي الإيراني والمتعثر منذ عقد من الزمن. لكننا نعلم أن أي اختراق في هذا المجال سيكون ثمنه على حساب حلفاء واشنطن وأصدقائها في المنطقة، لجهة دعم أو غض النظر عن التطرف الشيعي المتمثل بإيران وسورية و «حزب الله»، إضافة إلى الخلايا الشيعية في دول الخليج العربي، ولجهة دعم ما يسمى مجموعات الإسلام السنّي المعتدل التي تعتقد واشنطن على خطأ أنها أولاً معتدلة، وثانياً ستنجح في التخلص مما تسميه الإسلاميين المتطرفين. * إعلامي لبناني