وتعود غمائم التشاحن بين مناوئي «هيئة الأمر والنهي» والمنافحين عنها، كما حدث مرات، لكنها هذه المرة تحل حالكة معتمة السواد من الأضداد، وذلك على إثر حادثة اليوم الوطني التي كانت الهيئة طرفاً فيها، والتي أودت بأرواح يافعين جراء مطاردة بحسب منصات الإعلام التقليدي والإعلام الاجتماعي، لن أدرج في التعليق على ذات الحادثة أو مناقشتها، إذ قاعدتي الأزلية «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، ذلك أن الحكم من دون تصور يقيني أعتبره جوراً وعدواناً وبغياً بغير علم وحق، أضف إلى أن الحكم في أية جناية أو حادثة له جهاته التي يحتكم إليها من دون داعٍ لانخراط الأطياف في تراشق وتنابذ لن يغيرا في النهاية، والنتيجة غالباً «يباب». في السعودية تتحول «الهيئة» إلى امتحان أو ملهاة تأخذ عقول الناس مع أحاديثهم وانفعالاتهم، وذلك مع كل قعقعة تكون الهيئة فيها طرفاً في قضية وحادثة، مع الحادثة الآنفة «حادثة «الهيئة» والمطاردة التي حدثت في اليوم الوطني وانتهت بوفاة شابين»، وبصرف النظر عن تداعيات القصة وحقيقتها، أجد أنه من الأهمية بمحل ضرورة تناول حكاية جهاز الهيئة وحجم ولون اكتناه المجتمع بعامة لهذا الجهاز الذي يسهر الخلق جراه ويختصم من خلال إلماحات عدة، الأول: من يناوئون الهيئة، ويتكاثرون عليها خطاياها، وأحياناً يجرمونها من دون ربطها ببقية مؤسسات وأجهزة الدولة وعامة النسق الرسمي الذي يتوعك من حُمّى البيروقراطية المركزية، والتردي الإداري والفساد المنهجي بظني أنهم يتعاطون الانحياز الصريح كحال من يأخذ الأمور من الذيل ويهمل الرأس، ذلك أن الهيئة جزء من الأجهزة الحكومية الرسمية، وما يصيب الأجهزة الحكومية من تقهقر يصيبها مثلاً بمثل، لكن بعضهم لا يود أن يتفهم ذلك كما لو كانت «الهيئة» جهازاً تطوعياً أو منفلتاً. الثاني: انخراط فئام من الحركيين الحزبيين الذين يحملون خلفيات سجالية حركية مع المختلف (والذي يسمى بحسبهم تغريبي وأحياناً ليبرالي)، حوّل جهاز «الهيئة» إلى ثكنة يتخندق داخل أخاديدها دخلاء على الحسبة من مريدي وأنصار الإسلام الحركي الذي يتغلغل في مفاصل أجهزة الدولة، ومن هؤلاء وبسببهم يتم تحوير عمل «الهيئة» من جهاز إصلاحي وأخلاقي إلى جهاز احترابي تربصي ترصدي، يستخدم الجهاز الرسمي الديني لغايات، لا تتساوق مع الحسبة والاحتساب، وإنما كأفراد يتأمرون بتوجيهات الدعاة الحركيين الراديكاليين الذين يشتملون الهيئة بسطوتهم، بوصفها ذراعهم العملي الحركي. الثالث: لا يختلف كثير من مناهضي «الهيئة» من ليبراليين وغيرهم في لغونتهم الإقصائية والاستعدائية عن الدينيين التقليديين أو الصحويين في ناحية الإسقاط والكراهية واللاعقلانية والبغي بغير حق لمرحلة الفجور أحياناً، برأيي أن تناول وتعليق كثير من متدثري الانفتاح في قضايا وحوادث الهيئة يشارف الذهنية الدينية التقليدية أو الصحوية من حيث التحزب والتأدلج المحاكاتي، واللاعقلانية والكراهية غير الموضوعية. الرابع: مريدو المدارس الدينية يشعرون أن الهيئة جهاز ديني صرف «وغير رسمي»، وأنهم مسؤولون عنه وعن حراسته والذود عن بيضته أمام أرهاط أعداء الفضيلة بحسبهم، كما أنه ضمن مشمولاتهم الطبيعية، متناسين أن الجهاز ضمن المؤسسات الدينية الرسمية، وأنه لا ينتمي لأية جهة أو يحق لأية جهة أحقية استلابه تحت أية مظلة، ذلك أن جهاز الحسبة جهاز ليس موجهاً ضد أية فئة أو أي منكر محدد. الخامس: من إشكاليات «الهيئة» القارة في لا وعي كثير من أفرادها شعورهم العام أنهم على ثغر من ثغور الإسلام، وأنهم كالقابضين على الجمر، كما يستلهمون ذلك من المأثور النبوي، مع أن الواقع أنهم موظفون حكوميون كغيرهم، وما العمل في هذا الجهاز حقيقة إلا وظيفة براتب شهري، وليس احتساباً صرفاً، ولا يعني قولي هذا نزع نية الاحتساب، وإنما يعني أن نتفهم ويتفهم رجال «الهيئة» مكانهم الطبيعي من دون إفراط أو تفريط أو دعاوى أنهم حماة بقية الدين، وأنهم بقية الغيارى. السادس: إيهام الناس بأن جهاز «الهيئة» يمثل فرقاناً بين الحق والباطل، وأن مناوئيه يستهدفون الفضيلة، إنما هو تجريف للوعي، ذلك أنه مهما بلغ نقده أو هجاؤه من فئام، لا يعني ذلك أنهم يمسون جناب الدين، ومن كان فهمه كذلك فهو بحاجة إلى استيعاب القاعدة المهمة، «أن أية ممارسة أو توجه أو أية فئة مهما كان صلاحها وتدينها ليس بالضرورة أن تكون رديفاً موضوعياً للغاية والمراد الديني»، إذاً منتقد رجال «الهيئة» أو «الهيئة» لا يجوز أن يعد متعدياً على جناب الدين، فليس ثمة متماس مع مقاصد الله والدين سوى المعصوم محمد عليه الصلاة والسلام. السابع: من المهم أن ندرك أن أفراد «الهيئة» هم بعضنا، وبنو جلدتنا وثقافتنا، وما ينتجونه من ممارسات خاطئة ما هو إلا نتيجة للمقدمات الثقافية التي تخرجوا أو خرجوا بها من الوعي العام لثقافتنا الحادة، أضف إلى أن رجل «الهيئة» معرض للزلل أكثر من غيره بحكم تماسه مع أصعب طبقات المجتمع وبحكم أنه ينضوي تحت مظلة جهاز ضبابي عائم القوانين رديء الحوافز مفكك الأوصال بين رأس الهرم وأدناه، وذلك ما يدفع بعض أفراده المتحمسين والمتهورين للاندفاع العفوي، وذلك بسبب شعورهم بعدم وجود خريطة إدارية وقانونية واضحة تحد من اجتهاداتهم الفردية. ولن أنسى أن أذكر بأن رجال «الهيئة» يعانون من الضغط النفسي المضاعف، نتيجة شعورهم أنهم تحت الضوء وعين الرقيب المترصد، طبعاً ذلك بحسب لا وعي عامتهم، كما شعورهم أنهم منبوذون، وأن خطاياهم لا تغتفر بخلاف غيرهم، كرجال الأمن الذين لا يجدون ما يجده رجل «الهيئة» من تكبيل وقسوة اجتماعية، وذلك يضعنا أمام سؤال محير نوعاً ما، لِمَ يغض الطرف عن تجاوزات رجال الأمن من دون رجال «الهيئة»؟ وهل ذلك من صنيع المجتمع أم الرسمي أم رجال «الهيئة» أم الدينيين الحركيين؟ الثامن: قد لا يلام كثير من المجتمع في نظرته السلبية للهيئة، بسبب شعورهم أنهم أمام جهاز جامح متفلت الصلاحيات والأدوار، ولا يوجد عادة إلا في مواجهة حريات وخصوصيات وأرزاق الناس. التاسع: مخيال رجل الحسبة أنه يواجه زحفاً ومخططات جحافل من يسمونهم بالتغريبيين أو بني ليبرال وأعداء الفضيلة «الموهومين»، وذلك ما يضعه دوماً في حال تعبئة وتأهب يفقده عادة العقلانية والروية. العاشر: كثير من رجال الهيئة فصلوا الأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير عن النهي عن المنكر، وتحولوا إلى شق العسكرة «النهي عن المنكر»، وحتى المنكرات التي تخصصوا بملاحقتها، هي مما يعد في الظنيات والمنهيات المختلف فيها، والتي أبانت الأيام تهافتها، وتحولها إلى مباحات مع تلافيف السنين، فهل استبيحت المنكرات أم استعيد النظر في حكمها؟ * كاتب سعودي. [email protected] abdlahneghemshy@