لم تختلف تعابير وجهه كثيراً. فضّل الصمت حين كان الجميع يتحدثون. شاهد كيف يخططون، ولمس سعيهم لنيل لقب الفروسية، حتى في احتفالاتهم بالنصر «المنتظر». فضل الصمت. لم يهنئهم. هل هي قلة لباقة؟ ربما.. لكنه استمر هادئاً لدرجة تناسى معها الآخرون وجوده! تواصلت الاحتفالات، وظهرت الأنياب، وبدؤوا بتقسيم التركة، ورسم مستقبل المرحلة الجديدة، كان متعجباً من أولئك «الحمقى» الذين غضوا الطرف عن وجوده أو تجاهلوه. حسناً هم يتجاهلونه، لكن كيف تجاهلوا أنهم يلعبون في الحديقة الخلفية للقيصر؟ هذا ما لم يخطر ببالهم، لذلك واصلوا أفراحهم حتى ذبلت الحديقة وبقي «ما لقيصر لقيصر»! فلاديمير بوتين لا يقف طموحه عند سقف معين. تستهويه المغامرة، وذلك دفعه إلى تجربة كل ما وقع تحت سيطرته. حلَّق على متن المقاتلات الروسية، وهبط إلى أعماق البحار، ولم يكتف بذلك، بل أجاب - عندما سئل عن رحلاته المقبلة هل ستكون إلى الفضاء - بكل غرور وتعالٍ: «لا ليس في برنامجي الحالي»! من الكرملين - ليس كما البيت الأبيض - لا يحتاج بوتين إلى إرسال إشارات ليتم تلقيها أو اعتكاف لتحليلها، بل يرسل اليوم ابتسامة صفراء لا تخلو من الشماتة لأولئك الذين توقعوا أن روسيا أصبحت من الماضي، ووزنها لا يتعدى بضع صفقات. لا بد من الاعتراف بأننا تعجلنا كثيراً كعادتنا، وأيضاً - كعادتنا - ذهبنا بعيداً تمدُّدنا ازداد كل يوم. تحدثنا عن حلول وجميعنا كان لديه حلول، وقلة فقط كانوا يملكون الطموح، وفرقة عملت للاستحواذ على المشهد.. أي مشهد؟ جميع المشاهد! في سورية التي تئن منذ أكثر من عامين، كان الجميع يتصرف وكأنه سيد الموقف. أميركا كعادتها كانت هي التي تعتقد على الأقل أنها تملك دفة الموقف وتوجهه مثلما تشاء في غياب وزن روسيا. هكذا كانت المؤشرات، فحليفها صدام حسين ذهب وهي تراقبه بأقمارها اهتزت موسكو من الألم أكثر من صدام، لكنها لم تحرك ساكناً. القذافي بدوره كان حليفاً لروسيا ولم يكن أحسن حظاً من صدام. إذاً من الذي سيحرك موسكو الآن لتقف مع بشار الأسد؟ أخفقت أميركا كثيراً، فالمصالح لا تعني دائماً صفقات، تلك فلسفة العم سام وأبنائه التي تعتمد على قاعدة: «قل لي كم تعطيني، أقول لك من أنت؟» بينما في روسيا شأن مختلف، فطالما أن بالإمكان أن آخذ عوضاً عن أن تعطيني، فالقاعدة هنا أكثر إيجابية، وبطبيعة الحال أكثر إغراء. الشرق الأوسط هو الملعب، لذلك تسمع الضجيج من جميع أركانه، وأصوات تهز أعمدته، لكن ما إن تنتهي المواجهة حتى تبدأ أعمال الصيانة من جديد في انتظار مواجهة أخرى. الشاهد في ذلك كله أن بوتين بعث روح القياصرة من جديد في امبراطوريتهم، وأن ال95 عاماً التي انقضت منذ إعدام آخر قياصرة روسيا تمّ إحياؤها. بوتين كان يقوم بأعمال الترميم، كنا نعتقد أنهم ذهبوا بلا رجعة، وهذا ما جعل أميركا تنام ملء جفنيها وهي مطمئنة إلى أنها شرطي العالم، وأنها الآمر الناهي إلى أن استيقظت ذات صباح وأدركت أنها أطالت «الغفوة»، وأن ما ذهب يصعب تعويضه. اليوم صمتت أميركا بعد كثير من الضجيج، وحلفاؤها لا يزال لديهم أمل بأنها ستستعيد عافيتها، لكن كلما زاد ذلك الطموح تطاول صمتها. في المقابل ارتفع صوت روسيا عالياً، هي لا تريد أن تصبح شرطي العالم، فهي وظيفة «متدنية» في هذه الظروف المطلوب فيها قائد للعالم. قد يكون ذلك هو طموح القيصر، وحتى إن لم يكن كذلك فهو يمارسه اليوم، ولا ينقصه ليكتمل المشهد إلا إنشاء هوليوود روسية تروج لأمجاده. * كاتب وصحافي سعودي.