مشهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو يمشي وحيداً الأسبوع الماضي، في أحد شوارع سان بطرسبورغ، أثار مشاعر كثيرين وحظي بتعاطف بدا سابقة داخل روسيا وخارجها. كانت مراسم جنازة مدرب الجودو أناتولي راخلين الذي يوصف بأنه «الأب الروحي» لبوتين انتهت للتو، وبدت معالم التأثر واضحة على الرئيس الذي فقد واحداً من أعزائه، وسار وحيداً في شوارع قريبة طالباً من مرافقيه منحه «خلوة» مع نفسه. غطى المشهد الإنساني على تفاصيل توقّف عندها بعض المعارضين من دون ضجيج، مثل الشوارع التي بدت خالية تماماً من المارة والسيارات، والكاميرا والمرافقين الذين رافقوا الرئيس «عن بُعد» في «خلوته». كان الأهم أن «بوتين الإنسان» وليس الرئيس احتاج التوقف لحظات مع نفسه بعيداً، واسترجاع ذكريات دافئة مع الراحل الذي علمه الكثير. الحدث الذي حظي بتغطية واسعة جداً في وسائل الإعلام الروسية والأجنبية، ذكّر بمشهد بوتين في الساحة الحمراء وقد اغرورقت عيناه بالدموع وهو يحيي أنصاره، بعد دقائق قليلة على إعلان فوزه في انتخابات الرئاسة لولاية ثانية. تلك اللقطات التي بثتها القنوات التلفزيونية بكثافة، أثارت نقاشاً واسعاً، وظل الروس طويلاً بعدها يُناقشون سبب انهمار دموع الرئيس، وهل وراءها الرياح القوية التي باغتت المكان، أم فرحة النصر ولقاء ألوف احتشدوا لتحية الزعيم العائد إلى الكرملين. في الحالين انطبعت اللحظة «الإنسانية» في عقول ملايين، واعتاد بوتين الظهور في لقطات نادرة بالنسبة إلى رئيس، فهو تارة سائق سيارات «فورمولا ون» أو قائد مقاتلة متطورة أو غواصة نووية... وتارة هو لاعب الجودو الحائز على الحزام الأسود، والذي يمارس بانتظام ركوب الخيل والتزلج على الجليد، ورياضات شتى. لكن الجديد في ولايته الرئاسية الثانية هو محاولة النأي عن مشاهد استعراض «البطولة والقوة»، لمصلحة لقطات تغزو القلوب مباشرة. ويربط بعضهم هذا التطور بتسريبات ظهرت للمرة الأولى بداية السنة، وتحدثت عن خطة وضعها الكرملين لتغيير الصورة النمطية عن الرئيس الروسي. وأفادت وسائل إعلام بأن الخطة بدأ التحضير لها بعد تعرض بوتين لوعكة صحية نهاية العام الماضي، أبعدَتْه عن الأضواء لفترة، وكان هدف الخطة في البداية، تقديم صورة تنأى ببوتين عن مثال الرئيس السابق بوريس يلتسن الذي بدا متهالكاً صحياً، ضعيفاً في ولايته الثانية، وليس ممسكاً بمقاليد الأمور. ونصّت الخطة أيضاً على ضرورة تغيير الصورة النمطية لرجل الاستخبارات السابق الذي يمسك البلاد بقبضة حازمة، و «الوسيم صاحب العضلات المفتولة» و «قيصر روسيا» وهي عبارة تستخدمها الصحافة الغربية بكثافة، وتثير غالباً استياء الكرملين... ليغدو بوتين «حكيم السياسة الروسية» ومدير تقاطعات خيوطها، القادر دائماً على صنع «توليفة ناجحة» بين أجهزة القوة ورجال المال والأعمال، ورموز التيار السياسي الليبرالي. وقالت مصادر في الكرملين إن التوجه الجديد بات مطلوباً في ضوء متغيرات كثيرة، ويتناسب مع سن الرئيس الذي دخل عقده السابع. لكن التطور الذي طرأ على خطة الكرملين تمثّل في إضافة «بوتين الإنسان» إلى المعادلة، لتكتمل أركانها. هكذا، لم يعد الرئيس يظهر محاطاً بفتيات مراهقات مفتونات به، ويعتبرنه «الرجل المثالي» بل ظهر أكثر من مرة، وسط مجموعة من الأطفال وهو يمازحهم أو يوقّع صوراً مهداة إليهم. وخاطب طفلة شَكَت إليه في حديث تلفزيوني على الهواء، عدم وجود حديقة للأطفال قرب منزلها باسمها المصغر تحبباً، واعداً بأنه سيشرف على تحقيق رغبتها. ويبدو أن الخطة بدأت تحصد نجاحاً، إذ تجاهل كثيرون عند إعلان بوتين وزوجته لودميلا طلاقهما قبل أسابيع، أن سيد الكرملين هو صاحب استراتيجية الحفاظ على الأسرة بصفتها الحجر الركن في المجتمع، وأنه أطلق برنامجاً ضخماً لتحقيق ذلك، وأن الطلاق جاء في «عام الأسرة» الذي بادر بوتين إلى إعلانه. لم يتوقف أحد عند ذلك، وتعاطف كثيرون من الروس مع الزوجين وهما يعلنان انفصالهما، بعد حضور عرض باليه في مسرح روسي، ووسط باقات الزهور. حينها كتبت الصحافة إنه «طلاق حضاري و... إنساني».