كان محزناً ومحبطاً خطاب الرئيس محمود عباس، في الجمعية العامة للأمم المتحدة (26/9)، فهذا ليس خطاب ضحيّة، لشعب عانى عذابات الحرمان من الوطن والهوية والحقوق، منذ أكثر من ستة عقود، ولا خطاب حركة تحرّر وطني تشتغل على استنهاض همم شعبها، وتعزيز إجماعاته ووحدته وهويته الوطنية، ولا خطاب قيادة سياسية لديها قضية عادلة تسعى لترسيخ صدقيتها وجلب التعاطف الدولي معها. خطاب الرئيس أبو مازن، وهو بالمناسبة ما زال رئيساً لمنظمة التحرير ولحركة «فتح» أيضاً، كان موجهاً، فقط، إلى كل من الإدارة الأميركية، والحكومة الإسرائيلية، لذا فقد بدا أقرب إلى خطاب استعطاف، كأن الحقوق يتمّ انتزاعها بالمناشدات والتوسّلات، أو بمثابة خطاب مرافعة لإثبات حسن سلوك إزاء إسرائيل، وحليفتها الولاياتالمتحدة، كأن الفلسطينيين (الضحية) هم من عليهم إثبات ذلك، لا العكس! لم يكن خطاب الرئيس قصيراً، ولا مختزلاً، إذ استغرق وقتاً طويلاً، مع 2080 كلمة، وقد وردت فيه كلمتا السلام والمفاوضة حوالى 45 مرّة، في جمل طويلة، ومتعدّدة، وبالمقابل فقد وردت كلمات من مثل الاستيطان والمستوطنات 7 مرات، والقدس 4 مرات، وفي مرتين، فقط، وردت كلمات اللاجئين، والاستقلال، وإنهاء الاحتلال، أما عن ممارسات إسرائيل إزاء الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، فكلمات من مثل القتل والاعتقال والقمع ومصادرة الأراضي وهدم البيوت والجدار الفاصل وحصار القدس وغزة فقد وردت مرة واحدة، في حين لم تذكر ولا مرة كلمات التحرير أو حق العودة. في خطابه المذكور اعتبر الرئيس الفلسطيني أن هدف المفاوضات «يتحدّد في التوصل إلى اتفاق سلام دائم يقود، وعلى الفور، إلى قيام دولة فلسطين المستقلة الكاملة السيادة وعاصمتها القدسالشرقية، على كامل الأراضي التي احتلت عام 1967، لتعيش بأمن وسلام إلى جانب إسرائيل، وحلّ مشكلة اللاجئين الفلسطينيين حلاً عادلاً ومتفقاً عليه وفق القرار 194 كما دعت إليه ونصت عليه مبادرة السلام العربية»، علماً أنه يدرك أن هذه الدولة لم تقم بعد عقدين على توقيع اتفاق أوسلو (1993)، وحتى أن إسرائيل لم تفِ بالاستحقاقات المطلوبة منها في المرحلة الانتقالية. المشكلة الأولى في هذا الخطاب، أن أبو مازن يدرك أن القصة لم تعد تتعلق بعودة كامل الأراضي المحتلة (1967)، وأن إسرائيل باتت تفاوضه، من موقع القوة والإملاء، على ما تدعيه حقّها في الضفّة، وأن هذه المسألة باتت منتهية قبل بدء المفاوضات، مع قبول القيادة الفلسطينية بمبدأ «التبادلية». المشكلة الثانية، أن الرئيس لا يتحدث عن «حق العودة»، وإنما عن حلّ ما لمشكلة اللاجئين، وفي ذلك تنازل مسبق عن الرواية الفلسطينية، التي تشكّل أساس هوية الفلسطينيين، وتشكلهم شعباً، كما عن حق من حقوق الإنسان، وهو حق فردي، فضلاً عن كونه من «الحقوق الثابتة غير القابلة للتصرّف» التي أقرّ بها المجتمع الدولي للفلسطينيين. ولعل جملة «متّفق عليه» تفيد بأن القيادة الفلسطينية تشتغل على اعتبار أن مطلب إقامة الدولة لا يمكن أن يرتبط مع «حق العودة»، وحتى لو كانت هذه الدولة منقوصة، إذ لا يوجد عاقل فلسطيني، يعتقد أن إسرائيل قد توافق على «حق العودة». المشكلة الثالثة، تكمن في التنازل الطوعي والمسبق بقبول إقامة الدولة «على 22 بالمئة فقط من أراضي فلسطين التاريخية»، في تجاوز لقرارات الأممالمتحدة، التي يتحدث أمامها، بخاصّة القرارات 181 (1974) الذي منح الفلسطينيين 43 بالمئة من أرض فلسطين لإقامة دولتهم عليها، و194 (1948) الخاص بحق العودة للاجئين و/أو التعويض عليهم، و273(1949) الخاص بالاعتراف الدولي بإسرائيل شريطة اعترافها بمضمون القرارين السابقين. المشكلة الرابعة، أن أبو مازن دأب في خطاباته على التأكيد أن الفلسطينيين لا يشتغلون على نزع شرعية إسرائيل، وهذا يعد تقدمة مجانية لدولة انتهجت نزع شرعية الفلسطينيين، وتغييبهم، أو إزاحتهم من الزمان والمكان. فالصراع على الشرعية، التاريخية والقانونية والأخلاقية، هو إحدى الأدوات النضالية المشروعة، والسلمية، والتي تعتمد على الصراع في مجال الأفكار والقناعات والخطابات، وحتى أن ثمة إسرائيليين ويهوداً يقولون بعدم شرعية إسرائيل، وهذا أقل شيء يمكن أن يفعله الفلسطينيون، للدفاع عن حقوقهم، وعن هويتهم كشعب، لتأكيد عدالة قضيتهم. ومعلوم أن إسرائيل تدأب على فرض روايتها، وعلى طلب الاعتراف بها كدولة يهودية، ما يتضمن إنكار الضحية والتنكّر لنكبة الفلسطينيين، والاعتراف بحق اليهود التاريخي، ومنذ أكثر من ألفي عام، في فلسطين، وفق الأسطورة الدينية/التوراتية، وهو شيء غير مسبوق في التاريخ. المشكلة الخامسة، أن أبو مازن يعد بتقديم جوائز ترضية لإسرائيل، بتأكيده لها في هذا الخطاب، بأن ثمن موافقتها على مجرّد قيام دولة فلسطينية (ولو ناقصة)، سيجلب لها «اعتراف 57 دولة عربية وإسلامية»، ولا أدري إن كان أبو مازن يملك ذلك، لكن ما يمكن الجزم به أن هذا الأمر سيضرّ بمصالح الشعب الفلسطيني، لأن حقوقه لن تتحقق بمجرد قيام سلطة محدودة على بقعة أرض في الضفة والقطاع. المشكلة السادسة، لم يتوجّه أبو مازن في خطابه إلى شعبه، لا داخل الأرض المحتلة ولا خارجها، فهذا كان مجرد خطاب لرئيس سلطة، فقط، ولم يكن خطاب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، التي من المفترض أنها الممثّل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، والحارس لقضيته، والمعبّر عن وحدته، وعن هويّته الوطنية. هكذا، لم يخاطب الرئيس الفلسطينيين في الأراضي المحتلة الذين يعانون الأمرّين جرّاء السياسات الأمنية والاقتصادية والتشريعات الإسرائيلية، القمعية والمجحفة والعنصرية، في الأراضي المحتلة، حتى في ظل وجود السلطة. ومعلوم أن إسرائيل تستبيح كل المدن الفلسطينية، وتدخلها متى تشاء، وأنها تسيطر على المعابر الخارجية، وعلى شبكة الطرق الداخلية، وأن الرئيس أبو مازن ذاته يحتاج إلى «تنسيق» للذهاب من مكان إلى آخر، ويحتاج إلى موافقة إسرائيلية للخروج والدخول، وهذا ما يعانيه الفلسطينيون في الأراضي المحتلة، الذين باتوا يشعرون أن وجود السلطة لم يضف لهم سوى سلطة أخرى، وسوى أجهزة أمنية زيادة، وأنه يثقل عليهم، على حريتهم وتحركهم وعلى مجالهم الاقتصادي والمعيشي وحتى على إمكانيات كفاحهم ضد السياسات الإسرائيلية. ولعل هذا ما رصده تقرير «وكالة المساعدات الدولية» («اوكسفام») بتأكيده أن «حياة ملايين الفلسطينيين أصبحت أسوأ مما كانت عليه قبل 20 عاماً، بسبب ما انتهجته الحكومة الإسرائيلية من توسيع للمستوطنات». ويذكر التقرير تضاعف «عدد المستوطنين من 260 ألفاً إلى 520 ألفاً» ووصول «المناطق التي تسيطر عليها إلى ما يربو على 42 بالمئة من الأراضي المحتلة (بعد أن كانت بين 1 و 2 بالمئة)، فضلاً عما أدى إليه نظام نقاط التفتيش والقيود الأخرى، على حركة الفلسطينيين وتجارتهم، من تقسيم للعائلات وإنهاك للاقتصاد.» وأن إسرائيل «أزالت، خلال العشرين عاماً الماضية، 15 ألف مبنى فلسطيني، شملت منازل، وأنظمة مياه، ومرافق زراعية». («الحياة»، 15/9) والسؤال المطروح هنا إذا كان الوضع على هذا النحو، وإذا كان الفلسطينيون في الأراضي المحتلة سيحصلون على مجرد دولة/سلطة، على حساب قضيتهم وهويتهم وحقوقهم، فما معنى هذه الدولة حقاً؟ وهل هذا يستحق فعلاً هذه التنازلات؟ أيضاً، لم يأت الرئيس الفلسطيني في خطابه على ذكر معاناة اللاجئين في المخيمات، في سورية ولبنان والأردن والعراق ومصر، وحرمانهم من الحقوق والهوية والوطن، بالدرجة المناسبة، ولم يأت على قدر مأساة الفلسطينيين السوريين، سواء الذين طحنتهم الحرب الدائرة في هذا البلد، أو الذين شرّدتهم الأقدار إلى الدول المجاورة، في لبنان والأردن ومصر وتركيا والعراق، والذين يعانون الأمرين، من دون أن يلتفت أحد لمعاناتهم وعذاباتهم، فسفارات السلطة لا تعتبر أن ذلك من اختصاصها، وحتى أن اكثرها لا يتصرف على نحو إنساني لائق، في حين أن القيادة لا تنأى بنفسها، فقط، عن الحدث السوري، وعن معاناة السوريين، وإنما هي تنأى بنفسها، أيضاً، عن هذا الجزء من الفلسطينيين. ليست ثمة هنا مطالبة للقيادة بالعودة إلى خطاب التحرير، والكفاح المسلح، وحرب التحرير الشعبية، فهذا لم يعد بمقدورها، فضلاً عن أنه لم يعد متاحاً في الظروف العربية والدولية، وبعد كل ما أحيط بهذه التجربة من مرارات وأثمان. لكن هذه القيادة بإمكانها استعادة خطابها المتعلق بالدولة الواحدة الديموقراطية العلمانية، الذي أطلقته أواخر الستينات، مثلاً، بخاصّة أن إسرائيل تنازعها على الضفة، فلم لا تصارعها هي على كامل فلسطين، بما يعيد الاعتبار للتطابق بين الأرض والشعب والقضية؟ كما بإمكان هذه القيادة، على الأقل، التمسّك بوثيقة «الحرية والاستقلال» التي صاغتها بروحية الانتفاضة الشعبية الأولى (1988). وفي كل الأحوال ربما ينبغي أن يكون مفهوماً أن التسوية لا تتحقّق بالتوهّمات والتوسّلات، ولا بإبداء حسن السلوك والتنازلات، فمن دون حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني كله، ومن دون قيم الحرية والمساواة والحقيقة والعدالة، يصعب تخيّل سلام أو حتى تسوية. هذا ما تعلّمه تجربة الصراع مع إسرائيل. حقّاً هذا خطاب تراجيدي بامتياز لواحدة من أكثر قضايا الشعوب تراجيدية في العالم. * كاتب فلسطيني