أثار الزميل حازم صاغيّة في مقاله «ماذا قال محمود عباس؟» (6/11)، عديد الملاحظات بشأن قضية اللاجئين، وتعذّر تمكينهم من «حق العودة». وقد جاءت تلك الملاحظات صادمة، وقاسية، لكن ليس بأكثر من الواقع المأسوي الذي يعيش فيه الفلسطينيون، منذ أكثر من ستة عقود، حيث لا تتيح لهم موازين القوى والمعطيات المحيطة استعادة أي من حقوقهم، إلا بالتفاوض مع عدوهم، وبالمستوى الذي يرضى به. هذا هو مضمون العملية التفاوضية منذ توقيع اتفاق اوسلو، المجحف والناقص، في البيت الأبيض الأميركي (1993)، والذي تضمّن تأجيل البتّ بقضايا رئيسة عدة، وضمنها التقرير بشأن حق العودة ومستقبل القدس وترسيم الحدود ومصير الاستيطان؛ ما جعل عملية التسوية، طوال عقدين، بمثابة ألعوبة لفرض الإملاءات الإسرائيلية. هكذا يبدو حازم محقّاً في اعتباره أن المفاوضات هي اللعبة الوحيدة السائدة في علاقة الفلسطينيين بالإسرائيليين، لا سيما مع تحوّل حركة تحررهم إلى سلطة، ومع توقّف كل أشكال مقاومتهم للاحتلال، حتى الشعبية منها، سواء من جانب «فتح» او من «حماس» (والجبهات)، في الضفة وفي غزة، ما يعني أن ليس ثمة احد يملك اليوم، ولا في المدى المنظور، تمكين اللاجئين من حقهم في العودة. ويلاحظ حازم أنه، في غضون ذلك، فإن هؤلاء اللاجئين يعانون الأمرّين جراء وضعيتهم هذه، يفاقم منها حرمانهم من حقوقهم الإنسانية في البلدان التي يعيشون فيها، الأمر الذي يفترض ايجاد حل ما لهم. ملاحظتي أن الزميل حازم حكى عن جانب من هذه القضية، وأقدّر أنه في مادة صحافية لا يمكن الحديث عن القصة كلها، مع ذلك، فإن ملاحظاته تستدعي بعض التساؤلات. فمثلاً، هل ما زال ثمة مجال لقيام دولة للفلسطينيين، في وقت ينعى فيه الرئيس الفلسطيني، بين يوم وآخر، هذا الخيار، بسبب استشراء المستعمرات في الضفة، وضمنها في منطقة القدس؟ ثم إذا افترضنا جدلاً جواز التنازل عن حق العودة مقابل دولة الضفة والقطاع، فماذا عن هؤلاء اللاجئين؟ هل ستقبل إسرائيل بعودتهم إلى «فلسطينالجديدة»؟ أو هل ستقبل الدول العربية اعتبارهم جزءاً من مواطنيها؟ وإذا لم يحصل هذا ولا ذاك، فما هو مصيرهم في الأردن ولبنان وسورية ومصر، علماً أن أوضاع تلك الدول لا تسمح بإبقائهم إلا على مضض، وكأمر واقع، وكبشر من درجة دونية؟ ومن ناحية إسرائيل، لنفترض انه تم التخلّي عن حق العودة، فهل هذا يضمن اتاحتها امكان قيام الدولة، وتفكيكها مستوطناتها من الضفة، مما تسميه «ارض الميعاد»، او «يهودا والسامرة»، بمصطلحاتها؟ وعلى العموم، فقد بيّنت تجربة عقدين من التفاوض أن إسرائيل لم تستجب، كما يجب، كل التقديمات التي بذلتها القيادة الفلسطينية، من الرئيس الراحل ياسر عرفات الى الرئيس الحالي أبو مازن، بسبب تعنتها، وعدم حسمها لحدودها الجغرافية والديموغرافية، واعتبارها نفسها دولة يهودية، واعتبارها الاستيطان في الضفة حقاً لها مستمداً من التوراة ومن «الوعد» الرباني. وقد بيّنت تلك التجربة، أيضاً، أن النقاش بشأن التسوية هو بمثابة نقاش بين الإسرائيليين، بين دعاة «أرض اسرائيل الكاملة»، من اليمين القومي والديني، ودعاة الدولة اليهودية الخالصة، من العلمانيين من تيار اليسار والوسط، الذين يرون الانسحاب من أراضٍ محتلة (1967) مجرد تحرّر من «الخطر الديموغرافي». ولا ننسى هنا أن تقسيم الضفة إلى مناطق (أ، ب، ج) في اتفاقية الحكم الذاتي إنما تم في عهد حكومة حزب العمل، أي حكومة رابين وبيريز وبيلين. والحقيقة أن التخلّي عن حقّ العودة للاجئين في إدراكات الإسرائيليين يرتبط باعتبارهم إسرائيل دولة يهودية، وبمحاولاتهم إضفاء الشرعية على الرواية المتعلقة بقيامها بمفعول رجعي، ومنحها شرعية تاريخية وأخلاقية، على حساب شعب فلسطين. وفوق ذلك، فإن من شأن هذا التخلّي التسهيل على التيارات الإسرائيلية المتطرفة سعيها لإخراج مواطنيها الفلسطينيين من نطاق المواطنة، أو التضييق عليهم لإخراجهم منها. من جانب آخر، فإن هذا النقاش يثير اشكاليات سياسية وأخلاقية كبيرة. فمن جهة ثمة حق لفلسطينيي الضفة وغزة في التحرر من الاحتلال، ونيل الحرية والاستقلال في دولة مستقلة، لا سيما انهم أشعلوا انتفاضتين وعانوا وضحّوا في سبيل ذلك. في المقابل، ثمة حق للاجئين بأن يحلموا بالعودة، وأن يتمسكوا بحقهم، لا سيما انهم عالقون في المخيمات من دون امل، وهم كانوا وقود الثورة المعاصرة. السؤال هو عن كيفية توليف هذه المعادلة؟ ثمة اشكالية ثانية تتعلق بكيفية الحفاظ على مفهوم وحدة الشعب الفلسطيني، وتعزيز هويته، في تسوية قد ينجم عنها كسر هذه الوحدة، وهذه الهوية؟ أيضاً، ثمة إشكالية ثالثة، فثمة من الفلسطينيين من يرى فلسطين من خلال حق العودة حصراً، وثمة منهم من يراها من منظور الدولة في الضفة والقطاع، وثمة آخرون يرونها من خلال التحرير الكامل. هكذا ثمة انقسام في العقل والروح الفلسطينيين، لذا ينبغي حضّ التفكير لخلق رؤى سياسية جديدة، تجيب عن كل هذه التساؤلات والإشكاليات، بعقلية مسؤولة تأخذ الواقع ولا تقطع مع المتخيل، عقلية توازن بين الحاضر والمستقبل، بين الممكن والمتأمّل، بين الحقيقة والعدالة؛ في بحث المسألتين الفلسطينية والإسرائيلية، في آن معاً. القصد أنه ينبغي نبذ المزايدات والاتهامات، وأيضاً نبذ التوهّمات والتنازلات التي تنبني عليها، والبحث في تعقيدات قضية الفلسطينيين، بكل تجلياتها، وضمنها قضية اللاجئين، لأنه في النهاية، لا «فتح» تملك التنازل عن حق العودة، ولا «حماس»، ولا اي جبهة من الجبهات تملك القدرة على التمكين من هذا الحق، الذي يستلزم حصول تغيير في موازين القوى، والمعطيات العربية والدولية، وفي المجتمع الاسرائيلي، او في بعض من كل ذلك. في الختام، أتفق مع الزميل حازم بأنه لا يوجد جوهر لا يحول ولا يزول ولا يتغير ولا تسري عليه معايير الحياة والتاريخ، لكن هذا يشمل كل الكيانات والأنظمة والهويات، وضمنها اسرائيل أكثر بكثير من غيرها. وأخيراً، فإن «قانون العودة» لليهود من بلاد الهند وأثيوبيا وروسيا وأميركا ليس أكثر اخلاقية وشرعية من حق العودة للفلسطينيين. هكذا، فإن تعذّر حق العودة لا يعني التخلي عن هذا الحق، لا سيما اننا إزاء تسوية لا تتضمن أياً من عنصري الحقيقة والعدالة، كما بيّنا، وتبدو كتسوية املاءات من طرف على طرف آخر يمثله الفلسطينيون. وختاماً، وبالنسبة الى إسرائيل، فهذه ليست سويسرا او دولة اسكندينافية اخرى، وإنما هي دولة استعمارية وعنصرية ودينية، وهي تتجه اكثر فأكثر لتصبح جزءاً من الشرق الأوسط، لذلك فإن حلّ مشكلاتها لا ينفصل عن حل مشكلات هذه المنطقة، حيث لا حلّ لهذه الكيانات إلا بمحاكاة العالم، واعتماد الصيغ الحديثة القائمة على الفيديرالية والديموقراطية وقيم المساواة والحرية والعدالة ودولة المواطنين. * كاتب فلسطيني