قبل حوالي 145 سنة ألف شخص مجهول يدعى شارل لوتريدغ، ولقب لاحقاً بلويس كارل، قصة جميلة اسمها «أليس في بلاد العجائب» لا تزال تحتفظ حتى الآن بنضارتها وحضورها القوي المثير للخيال بفضل العالم السحري الذي تأخذنا إليه المغامرات المشوقة لبطلة القصة الفتاة الصغيرة التي تدعى أليس والتي وقعت في جحر أحد الأرانب لتنتقل بعدها إلى عالم آخر ساحر وخيالي. ما يعنينا في هذه القصة ما يرمز إليه أحد أهم أحداثها، عندما وصلت الفتاة أليس أخيراً، مثل الرئيس أبو مازن، إلى مفترق طرق ومن ثم كان عليها، تماماً مثل أبو مازن، أن تختار أياً من الطرق المتعددة التي عليها أن تسلكه لتجاوز هذا المفرق الخطير والحاسم، حين ذاك سألت أليس قطتها الحكيمة التي كانت ترافقها: أي الطرق علينا أن نسلك الآن؟ فردت القطة الحكيمة: هذا يتوقف أولاً على الوجهة التي ترغبين ببلوغها، لكن أليس المرهقة والمحبطة مثل الرئيس ابو مازن، قالت لها: ليس مهماً إلى أين يجب أن نذهب المهم هو مغادرة هذا المكان، فقالت القطة بما يشبه الحكمة: إذا لم يكن لك هدف ترغبين حقاً في بلوغه فاسلكي إذاً أي طريق. ويبدو أن أبو مازن وصل، ولو متأخراً مثل أليس، إلى مفترق سياسي حاسم وخطير، فهو لا يرغب في قرارة نفسه في مواصلة المفاوضات المباشرة التي جر إليها عنوة، ولذا تسلق أعلى الشجرة معلناً من هناك انه لن يواصل هذه المفاوضات في ظل الاستيطان، لكنه في الوقت ذاته لا يرغب ولا يقوى، وهو في ذلك محق تماماً، أن يضع نفسه وقضيته وشعبه في مسار تصادمي مع الإدارة الأميركية والرئيس أوباما، وهو يتفادى الانقياد طواعية إلى الكمين الذي أعده نتانياهو ليحمله وزر إفشال المفاوضات وإحراج أوباما، وهو في الوقت ذاته لا يمكن أن يقبل من نتانياهو عرضاً للتسوية ينخفض سقفه عما كان أبو عمار قد رفضه في مفاوضات كامب ديفيد، أو عرض ايهود اولمرت الذي يوصف في إسرائيل بالأكثر سخاء الذي كان أبو مازن نفسه رفضه عندما لفظت مفاوضات عملية انابوليس أنفاسها وأخذت معها اولمرت وبوش إلى سجلات التاريخ. ومن جهة أخرى لا يبدي أبو مازن ما يكفي من دعم أو استعداد للالتحاق بخيار سلام فياض، (لقبه شمعون بيريز ببن غوريون فلسطين)، الذي يعمل جاهداً على استكمال بناء المؤسسات المؤهلة لإعلان الدولة الفلسطينية من طرف واحد في خريف العام المقبل، كما لا يبدو أبو مازن متيقناً من جدوى إلحاح وعمر موسى على حمل قضيته للأمم المتحدة لتضيع مرة أخرى بين أروقة القرارات غير الملزمة للجمعية العامة أو تصطدم بحائط الفيتو الأميركي في مجلس الأمن. ولا يبدو أن أبو مازن قادر على أن يرى من خلف نظارته الطبية الملامح الواقعية للدولة الواحدة الثنائية القومية التي تلوح له من بعيد كحلم غائم في الأفق. ولهذا كله يبدو أن أبو مازن بات مقتنعاً انه وصل أخيراً إلى مفترق طرق، لكن الحقيقة تقتضي القول إنه ليس وحده الذي يلعب الآن دور أليس، فقد وصلنا جميعاً معه، ربما متأخرين أيضاً، إلى مفترق الطرق، النظام العربي الرسمي وأحزاب المعارضة جنباً إلى جنب مع المناضلين من فلسطينيي الفصائل على اختلاف وتعدد انتماءاتهم وارتباطاتهم، جميعنا نلعب دور أليس، ولذا قد نحتاج إلى استعارة حكمة القطط إذا ما غام الهدف في العيون وأعطب استمراء الشعار السياسي رجاحة العقل وعطل فطنته. ولما كان الأمر يخص الأزمة المزمنة للتسوية ينبغي مصارحة النفس بأن أسباب هذه الأزمة لا تكمن فقط، كما هو شائع في الخطاب العربي، في التعنت الإسرائيلي وفي الانحياز الأميركي لها، ولا في ما يسمى بالخلل الاستراتيجي في موازين القوى بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي، وكلها من الاسباب الجوهرية التي تقف حقاً خلف الأزمة المزمنة للتسوية، لكنها مع ذلك ليست وحدها هي الأسباب الحصرية المسؤولة عن هذه الأزمة، إذ ثمة مسؤولية أخرى أساسية تقع على عاتقنا ولا يجوز التنكر لها أو التهرب منها. وحتى لا ننزلق كالعادة إلى متاهة التعميم، يمكن تشخيص وتحديد المسؤولية الفلسطينية – العربية عن أزمة التسوية في عناوين كبرى ثلاثة: أولاً – لا الفلسطينيون ولا العرب انشغلوا أو اشتغلوا بنسج العلاقة الناظمة بين التسوية المرحلية وبين ما يسمونه الحل النهائي، ولا يمكن العثور مطلقاً في الأدب السياسي الفلسطيني أو العربي على أي مفهوم واضح أو رؤية منطقية مبنية في شكل متماسك لهذه العلاقة، وليست واضحة أبداً الكيفية التي يمكن الانتقال بها من التسوية التي تطالب بدولة فلسطينية مستقلة في حدود 1967 وترتكز على القرارين 242 و338، وبين الحل النهائي الذي يدعو إلى نقض القرار 181 الصادر في 29/11/1947 الذي قضى بتقسيم فلسطين إلى دولتين: يهودية وعربية، والى كنس نتائج هزيمة 1948. إن هذه المسألة ليست مجرد فذلكة نظرية بل هي تمثل في شكل مؤكد حجر الزاوية في الإشكالية المزمنة للتسوية، ففي غياب أو تغييب مثل هذه العلاقة الناظمة بين التسوية والحل التاريخي يجري اتهام المرونة التفاوضية بالتنازلات المجانية، وتوصم المساومة بالتفريط وكل تسوية يمكن إحرازها سيتم نعتها بالخيانة، لكن هذا الأمر سيبدو مختلفاً تماماً إذا ما توافرت للقيادة الفلسطينية رؤية متماسكة عن إمكانية وكيفية الانتقال من التسوية إلى الحل التاريخي، ولا يعود هناك من يجرؤ على اتهامها بالتفريط أو التنازل، لأن التسوية، التي ستكون حتماً منقوصة أو شائهة، سيبررها حينئذ الأمل المؤكد في إمكانية الانتقال لاحقاً إلى الحل النهائي والتاريخي. وهذا الوضع يبدو واضحاً في السياقات التاريخية المعروفة التي شهدت العديد من النماذج والأمثلة، كما في مثال صلح الحديبية في النموذج المحمدي، وفي اتفاقيتي الهدنة اللتين وقعهما صلاح الدين الأيوبي مع الصليبين وهو يزحف لتحرير بيت المقدس، وفي مثال زعيم الحزب البلشفي لينين الذي أبرم مع الألمان اتفاقية وصفها هو بالدخول الاضطراري إلى حظيرة اليمين، أو في مثال اتفاقية باريس التي وقعها الزعيم الفيتنامي هو شي منه وهو يعرف أنها اتفاقية مذلة ومهينة، ولو حاكمنا كل هذه الأمثلة وغيرها بالمنطق الفلسطيني السائد لما أمكن أي منها الانتقال من التسوية الشائهة إلى الحل التاريخي. وما دمنا وصلنا مع أبو مازن إلى مفترق طرق فأنه يتوجب علينا في هذا المجال أن نحسم امرنا ونختار واحداً من الطرق التالية: أن نحصل على أقصى ما يمكن من التسوية مقابل الإقرار بأنها حل نهائي للصراع ونوقع على صيغة «انه لم يعد لنا مطالب أخرى» بانتظار تغيير أو تعديل موازين القوى بما يسمح موضوعياً بتجاوز هذه التسوية تماماً أو تحسين شروطها في شكل نسبي، هذا اذا كان لدينا ما يكفي من اليقين بحتمية احراز الحل التاريخي. او ان نقبل بتسوية منقوصة وشائهة من دون ان نكون مضطرين وقتها لتسديد فاتورة باهظة من رصيد الحقوق والمطالب الفلسطينية. او ان نهجر نهائياً مسار التسوية التفاوضية لنلجأ بعدها إما لتطوير واعتماد بديل افضل او لتحصين الاوضاع الذاتية في خنادق الصمود طويل النفس. وقد يكون على الفلسطينيين، وهم الآن عند مفترق الطرق، ان يحسموا أولاً مفهومهم ورؤيتهم للعلاقة بين التسوية والحل التاريخي وبعدها وعلى اساسها يجرى اختيار اي من هذه الطرق الثلاثة دونما ابطاء او تردد. ثانياً - ان التسوية تعطلت وستتعرض دائماً لازمات لاحقة نتيجة العوامل المعروفة (التعنت الاسرائيلي والانحياز الاميركي والخلل في موازين القوى)، وكنتيجة ايضاً لتناقض مكونات الصفقة التي يطالب بها الفلسطينيون كرزمة واحدة وغير قابلة للتساوم او الانتقاص، وهذه الصفقة تتضمن الدعوة الى اقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة على حدود الاراضي المحتلة في 4 حزيران (يونيو) 1967 وعاصمتها القدسالشرقية وحق اللاجئين في العودة طبقاً للقرار 194 او في الصيغة المخففة التي وردت في المبادرة العربية: حلاً متفقاً عليه لمشكلة اللاجئين وفقاً للقرار 194. وليس هناك من خلاف على مشروعية هذه المطالب واعتبارها الحد الاقصى من التنازلات التي تقبل الآن بدولة في حدود 22 في المئة فقط من مساحة فلسطين عوضاً عن مساحة كانت تقدر ب 46.8 في المئة كان اقرها قرار التقسيم عام 1947. ومع ذلك ينبغي القول بكل شجاعة وصراحة ان مكونات هذه المطالب تبدو متناقضة وبخاصة في ما يتعلق بالمطالبة بدولة فلسطينية مستقلة في حدود 67 وبحق اللاجئين في العودة الى داخل اسرائيل فيما وراء هذه الحدود، ليس لأن ذلك غيرعادل او شرعي ولكن لأنه غير ممكن فضلاً عن انه متناقض، فالبيانات الديموغرافية الرسمية الاسرائيلية والفلسطينية تؤكد ان عدد الفلسطينيين داخل اسرائيل قد وصل الى اكثر من 1445000 نسمة وارتفعت نسبتهم الى 20.2 في المئة من السكان وهذه النسبة بحد ذاتها تمثل خطراً وجودياً على اسرائيل وتنقلها من الناحية الواقعية الى دولة ثنائية القومية او الى دولة ابارتهايد، واذا كان هناك من يتوهم إمكان اعادة ربع، وليس نصف او كل اللاجئين الفلسطينيين المقدر عددهم بأكثر من خمسة ملايين نسمة الى داخل اسرائيل فإنه لا يكون وقتها بحاجة للمطالبة بدولة مستقلة في الضفة والقطاع لان المشروع الاسرائيلي سيتقوض حينها من تلقاء نفسه ومن دون الحاجة لاطلاق رصاصة واحدة او حتى الجلوس على طاولة المفاوضات. وندرك مسبقاً ما قد تسببه هذه المصارحة من احراج او جراح وما يمكن ان ينجر عليها من اتهامات بالتساوق مع المنطق الاسرائيلي والتفريط في الحق المقدس للفلسطينيين في العودة .. الخ، لكن هذا كله لا يعفي احداً من الاجابة عن الاسئلة الصعبة عن الكيفية التي يمكن الجمع فيها، في صفقة واحدة غير قابلة للقسمة او الاختزال، بين اقامة الدولة المستقلة وحق العودة للاجئين الفلسطينيين معاً. وبما اننا وصلنا مع ابو مازن الى مفترق الطرق في هذه النقطة ايضاً فإنه يتعين علينا ان نختار واحداً من الطرق التالية : 1- ان نستمر في التمسك المبدئي الحازم برزمة الحقوق والمطالب الفلسطينية المشروعة وبخاصة اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وحق اللاجئين في العودة حتى لو أدى ذلك الى عدم الحصول على اي منهما. ان نقرر المساومة على مطلب حق العودة للاجئين مقابل التمسك بالحصول على الحد الاقصى من الارض والسيادة بما في ذلك القدسالشرقية وما يسمى بالحوض المقدس في الدولة الفلسطينية المستقلة وكفالة حق العودة الى هذه الدولة. اجراء تعديل في ترتيب الاولويات الفلسطينية بحيث تتقدم المطالبة بحق العودة على كل المطالب الاخرى، ويتحتم وقتها اجراء تغيير جذري في الاستراتيجية الفلسطينية وفي السياسات والتكتيكات المعتمدة من 1965 وحتى الآن او ان نبذل مزيداً من الجهد المكثف لتخليق حل ابداعي من خارج الصندوق بما يضمن الحصول على الدولة المستقلة وعدم اهدار حق اللاجئين في العودة، وهذا الخيار يبدو صعباً لكنه مع ذلك قد يكون ممكناً اذا ما اعتمد الفلسطينيون حلاً ابداعياً يرتكز على فكرة اجراء تعديل او تحوير بنيوي في الهندسة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية بحيث تمثل هي «الوكالة» المسؤولة عن قضية اللاجئين، فيما تختص السلطة بشؤون وصلاحيات الحكم في الدولة المستقلة. والخيارات الاربعة تبدو شائكة بل ربما ملغومة ولكن يتحتم علينا الا نطيل الوقوف مع ابو مازن اكثر من ذلك عند منعطف مفترق الطرق هذا وان نختار الطريق الذي علينا ان نسلكه ونتقدم بخطى واثقة وثابتة. ثالثاً - ثمة مسألة اخرى، وبالطبع ليست اخيرة، تتعلق بضرورة تصحيح الخلل وعدم التناسب ما بين السيل المتدفق من التصريحات التي تهدد بقطع الصلة مع المفاوضات والانتقال الى بدائل اخرى، ولكن من دون ان يكون هناك في الواقع امكانية لأخذ مثل هذه التهديدات على محمل الجد، لكن هذا لا يعني البتة ان الفلسطينيين والعرب يعدمون مثل هذه الخيارات البديلة، لكنها تبقى حتى الآن في طور الكمون ولا يمكن التعامل مع البديل الكامن على انه ممكن ما لم يستوفِ العديد من الشروط الغائبة او المغيبة. ولا توجد جدوى ترجى من وراء عرض لائحة نظرية بالبدائل الفلسطينية العربية الممكنة في ظل التعامل العشوائي مع هذه المسألة الخطيرة مثلما هو حاصل فعلاً بالنسبة إلى التصريحات الشعبوية التي لم يتوقف الأمين العام للجامعة العربية وجوقته عن إطلاقها بالتهديد بنقل «القضية برمتها إلى الأممالمتحدة». قد تكون أحد المعاني المهمة لإدراكنا بالوصول إلى مفترق طرق أن نكف عن التعامل بالمزاودة اللفظية مع قضايا مصيرية مثل تغيير المسار التفاوضي واعتماد بديل استراتيجي مغاير. كل هذه المسائل يجب أن تطرح الآن بكل صراحة ووضوح، لانه اذا كان أبو مازن مضطراً للعب دور أليس عند مفترق الطرق، فأنه يلزم ان نجتهد لنلعب معه دور القطة الحكيمة. * رئيس منتدى الشرق الأوسط في القاهرة