تحلّ اليوم الذكرى السنوية الثالثة عشرة للزيارة الاستفزازية التي قام بها زعيم «ليكود» اليميني الإسرائيلي في حينه آرييل شارون إلى باحات المسجد الأقصى المبارك لتشعل فتيل الانتفاضة الثانية وتقوّض محاولات التوصل إلى اتفاق سلام بين رئيس الحكومة في حينه إيهود بارك والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. جاءت «الزيارة» بعد شهرين على محادثات باراك – عرفات في «كمب ديفيد» برعاية الرئيس الأميركي في حينه بيل كلينتون التي عارضها شارون بشدة، وفي أوج بداية تفكك حكومة باراك على خلفية مسائل داخلية. وباستثناء أوساط شارون التي حمّلت عرفات مسؤولية اندلاع الانتفاضة بداعي أنه حضّر لها بعد فشل مفاوضات في «كمب ديفيد»، ساد شبه إجماع في إسرائيل أيضاً على أن «زيارة شارون» للمسجد الأقصى بحجة زيارة «جبل الهيكل» هي التي أعطت الشارة لاندلاع الانتفاضة. وأشار مراقبون إلى أنها اندرجت ضمن مساعيه للبقاء زعيماً ل «ليكود» في ظل أنباء عن عودة سلفه في هذا المنصب رئيس الحكومة السابق بنيامين نتانياهو إلى الحلبة السياسية، وسط استطلاعات تؤكد أن الأخير سيهزم شارون في المنافسة على زعامة الحزب، كذلك في منافسة باراك في الانتخابات العامة. لكن حتى شارون نفسه لم يتوقع أن تؤول التطورات السريعة وأخطاء باراك ونتانياهو في قراءة الوضع إلى بلوغه كرسي رئاسة الحكومة خلال فترة قصيرة. وفي كتاب صدر أخيراً تحت عنوان «الراعي، قصة حياة آرييل شارون»، ألقى واضعاه الصحافيان نير حيفتش وجادي بلوم مزيداً من الضوء على كواليس خطوة شارون ونتائجها. وبحسب المؤلفيْن، فإن شارون أطلع حلقته القريبة عن نيته دخول «جبل الهيكل» (باحات المسجد الأقصى)، فتحمس لها نجله الصغير غلعاد، وقائد حملته الانتخابية الأميركي آرثور فنكلشتاين الذي التقاه شارون في نيويورك قبل أيام من «الزيارة»، والذي رأى أنه يجب وضع قضية القدس في صلب الحملة الانتخابية لشارون على رئاسة الحكومة. في المقابل تحفظ منها وبشدة ابنه البكر عومري، ورأى أن والده يرتكب خطأً، بل غضِب لأنه لم يسمع لنصيحته، واحتجاجاً لم يرافقه في الزيارة. وتم تنسيق الزيارة مسبقاً مع الجهات الأمنية الإسرائيلية. ورغم انها كانت بمثابة «عظْمة في حلق باراك»، إلا أن الأخير الذي كان في وسعه منع الزيارة بصفته رئيساً أعلى لجهاز الأمن العام (شاباك)، لم يفعل لخشيته من أن ينظر إليه الإسرائيليون على أنه يعتزم التنازل عن السيادة الإسرائيلية في «جبل الهيكل»، فضلاً عن أنه تلقى تطمينات «شاباك» بأنها ستمر بسلام و «لن تتسبب في اندلاع أعمال عنف تتعدى موقع الحدث». ودخل شارون وهو يرتدي الخوذة الواقية من الرصاص، برفقة خمسة نواب من «ليكود»، باب المغاربة الساعة الثامنة صباحاً (28/9/2000)، فاستقبله الفلسطينيون المرابطون في باحات المسجد بهتافات تندد به وبتاريخه، ثم حاولوا اختراق الحاجز البشري الذي شكله عناصر «الوحدة الخاصة - يسام» حول شارون للوصول إليه. ورد شارون بالقول إنه جاء مع «رسالة سلام تقول إنه يؤمن بالحياة المشتركة بين اليهود والعرب». لكن أحداً في الجانب الفلسطيني لم يقتنع بأقواله، وردوا عليه بهتافات: «شارون قاتل»، و «سفّاح صبرا وشاتيلا»، و «بالروح بالدم نفديك يا أقصى». وبحسب المؤلفيْن، شعر شارون بالضيق، وانفلت يحرض على النواب العرب، معلناً انه «من غير المعقول أن لا يستطيع يهودي زيارة أقدس المواقع للشعب اليهودي». ويتابعان: «وعندما وصل شارون الى درج اسطبلات سليمان، افترش الفلسطينيون الأرض وسدوا الطريق تماماً ... عندها قرر شارون إنهاء الزيارة، وعاد ورجاله من حيث أتوا وهو يعلن: جبل الهيكل بأيدينا»، (وهي الجملة التي قالها قائد وحدة المظليين موطا غور عند احتلال القدسالشرقية عام 1967). واستغرقت الزيارة 45 دقيقة فقط، لكنها كانت الشرارة لاندلاع الانتفاضة. واتهم الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في بيان أصدره شارون بأنه أعلن الحرب الدينية على القدس، ودعا الشعب الفلسطيني ليهبّ للدفاع عن الأماكن المقدسة الإسلامية. وفي اليوم التالي، تجددت التظاهرات واستشهد سبعة فلسطينيين برصاص الاحتلال. وفي اليوم الثالث، قتل الطفل محمد الدرة في مشهد مروّع رآه العالم كله، و «تم بث الصور في أرجاء العالم كله، وربح عرفات من جديد الرأي العام العالمي، فيما ظهر الجيش الإسرائيلي وإسرائيل بصورة سيئة للغاية». ويؤكد الكاتبان أن الزيارة أغضبت الولاياتالمتحدة التي حملت على لسان وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت شارون «المسؤولية عن الاستفزاز الذي تسبب في اندلاع المواجهات». ورفض شارون هذه الاتهامات، وادعى أنها جزء من حملة فلسطينية تم تحضيرها مسبقاً على يد عرفات وجماعته، من دون أي علاقة لزيارته للأقصى. وبرأي المؤلفين، فإن باراك الذي أغضب عرفات بتراجعه عن اقتراحه في كمب ديفيد لتسليم الفلسطينيين السيطرة على الأحياء الفلسطينية في القدس، رفض تحميل شارون مسؤولية اندلاع الانتفاضة، ورأى أن عرفات استخدم زيارة شارون ذريعة لإطلاق الانتفاضة. وتعرض باراك لانتقادات شديدة على موقفه هذا داخل حزبه وفي أوساط اليسار ولدى أصدقائه الأميركيين. وساد في حينه الاعتقاد بأن وراء هذا الموقف رغبة باراك في الإبقاء على فرص ضم شارون وحزبه لإنقاذ حكومته المتهاوية. لكنه، بعد مرور أسبوعين ونصف الاسبوع، ومع اشتداد الانتفاضة، لمّح باراك إلى مسؤولية شارون بقوله إن «زيارة الأقصى لم تكن ألمع فكرة هذه السنة». ويضيف المؤلفان: «في نظرة إلى الوراء، شكّلت زيارة شارون بداية نهاية حكومة باراك وبداية تحليق شارون من جديد إلى مركز الخريطة السياسية»، ووصوله المفاجئ بعد أربعة أشهر من بدء الانتفاضة إلى كرسي رئاسة الحكومة. ومع اتساع تظاهرات اليمين التي حملت شعار «دعوا الجيش ينتصر»، أعلن باراك في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) عن استعداده لخوض انتخابات مبكرة. ويؤكد الكاتبان ما راجَ في حينه ان شارون لم يكن معنياً حقاً بفرط عقد حكومة باراك في ظل استطلاعات الرأي التي أجريت بعد شهر على الانتفاضة، وأفادت بأنه في حال عاد نتانياهو إلى المعترك السياسي، فإنه سيطيح بشارون عن زعامة «ليكود»، وسيتفوق على باراك بعشرين نقطة. وأشار الاستطلاع إلى حصول «تحول دراماتيكي» في مواقف الجمهور الإسرائيلي نحو اليمين، متوقعاً أن يحصل على غالبية في انتخابات عامة. لكن مفاجأة باراك لاحقاً كانت أن الانتخابات ستكون لرئاسة الحكومة فقط وليس لانتخاب كنيست جديد. وأقدم باراك على هذه الخطوة ظناً منه أنه بذلك يمنع منافسة نتانياهو، إذ لا يجوز لغير نائب في الكنيست خوض انتخابات الرئاسة، فيما أشارت الاستطلاعات إلى تعادل القوى بينه وبين شارون، ليفترض أنه مع ذلك، فإنه قادر على هزم شارون. لكن ضغط نواب اليمين لإشراك نتانياهو في الانتخابات، أثمر عن سن قانون خاص يتيح له المشاركة، ما خلط كل حسابات باراك وشارون. مع ذلك، نجح باراك في تمرير اقتراحه عدم إجراء انتخابات عامة وحصرها في رئاسة الحكومة. ولم يمض أكثر من يوم حين فاجأ نتانياهو الحلبة السياسية بإعلانه انه لن يشارك في الانتخابات إذا لم تشمل انتخابات الكنيست أيضاً بداعي أنه لن يكون في وسعه إدارة حكومة مع تركيبة الكنيست الحالية. جاء الإعلان بعد تنازل جميع المتنافسين على زعامة «ليكود»، باستثناء شارون، لإتاحة فوز نتانياهو، فبقي شارون مرشحاً وحيداً نجح في هزم باراك في انتخابات رئاسة الحكومة في 6 شباط (فبراير)، ليبقى في هذا المنصب حتى إصابته بجلطة دماغية مطلع عام 2006 لم يصحُ منها حتى وفاته.