ينقطع سيل الكلام. تنظر شارلوت إلى شاشة هاتفها الذكي بحثاً عن اسم تسرب من ذاكرتها، فتجده وتتابع الكلام. وهي «تعجز عن مقاومة البحث عن المعلومة إذا عُرِفت أنها في المتناول»، تقول ابنة الثلاثين سنة الخبيرة في الشبكة الإلكترونية. والمشهد هذا عادي في عالم عام 2013. «منذ ابتكار الهاتف الذكي، صار دماغي منقسماً جزءين، الأول في رأسي والثاني في هاتفي. فجهاز الآيبود يعفيني من البحث عن المعلومات في ذاكرتي وذكرياتي، وكأننا اليوم متصلين بحبل ثقافي لا ينقطع يشدنا إلى الشاشة الذكية. وإذا فُصلنا عن الحبل هذا أو الأنبوب، يتوفى واحدنا دماغياً»، يقول تيبو، الطالب في كلية التجارة في مرسيليا. والقول إن المرء يتوفى دماغياً من غير هاتف ذكي هو تشبيه مخيف، لكنه قد يروق للفيلسوف الفرنسي، ميشيل سير الذي يرى أن أجهزة الكومبيوتر هي أدمغتنا ماثلة أمام أعيننا، وأن الهواتف الذكية دماغ يودع في الجيب. والضرب هذا من الأدمغة لا يصيبه تعب أو إجهاد، وإلمامه واسع. وتروي آن – لور، ابنة ال 22 سنة، طالبة الماجستير في معلوماتية الاتصالات، أنها حين وقعت على المعلومات الموجودة في الشبكة لم تستطع أن تمسك نفسها عن تسجيلها وحفظها وطبع نسخ ورقية منها وتبويبها، كأنها «موظفة مثالية في المصرف المركزي الفرنسي في قسم المحفوظات»، كما تقول ضاحكة. «واليوم، صرت أكثر نضوجاً. أرتب صفحاتي المفضلة وأتعلمُ أشياء كثيرة. الشبكة نبع لا ينضب من المعلومات»، تقول آن- لور. وحماسة الشابة في محلها، فعلى الشبكة، يجد المرء تسجيلات فيديو تشرح سبل تفكيك اللوح الإلكتروني أو تقدم معلومات تفصيلية عن الحمض الأميني أو دروساً تعليمية مفصّلة أعدتها جامعات أميركية عريقة (واليوم تسير جامعات فرنسية على خطى نظيرتها الأميركية). وتتعايش معلومات من كل حدب وصوب على النت. ولا يخفى الإقبال الواسع على موقع «ويكيبيديا»، الموسوعة المجانية المشرّعة على مساهمات المتصفحين. والرغبة في التشارك والشرح والتعليم هي روح الشبكة. ويقيم كوانتان أوجه الشبه بين الشبكة وشخص واسع الاطلاع تجتاف ذاكرته تاريخ العالم وثقافاته وابتكاراته وتساؤلاته... لكن ثراء شخصيته لا يحول دون تبديد الوقت بإلقاء نكات ونقل ما يدور من دردشة وثرثرة حول ألعاب ألواح التزلج. وليست الشبكة مكتبة تبسط المعارف على الرفوف، بموجب ترتيب منظم. فالإنترنت سوق عظيمة أو مغارة علي بابا تشرّع أبوابها لمن يقول «افتح يا سمسم». وفي فرنسا، تعرف الشبكة ب «غوغل»، وبين 91 و93 في المئة من متصفحي الإنترنت يستخدمون محرك البحث هذا. ويوكل الفرنسيون إليه مهمة ترتيب المعلومات وتنظيمها. وقلة قليلة من رواد الإنترنت، تضم آن- لور، تقارب نتائج البحث بين محركات بحث مختلفة وتبرز أوجه التقاطع بينها. وشطر راجح من «الإنترنتيين» يقتصر تصفحه نتائج البحث على أول صفحتين. ويطعن الباحث في الاجتماعيات، جيرالد برونّر في بعض معلومات الشبكة، وفي تلك التي تتصدر مقدمة نتائج البحث على وجه التحديد. ويصف مملكة النت في كتابه ب «ديموقراطية السذج». فإذا بحث المرء عن علم الفلك، يقع في أول صفحتين على معلومات تروّج لشبه العلم هذا. وهو يرى أن الإنترنت ترسخ النزعات الظلامية أو المؤامراتية عبر تداول معلومات غير مشذبة ولا تحتكم إلى معايير الخبراء. والبحث على الشبكة هو فن، والخوض في شباكها وتفرعاتها معقد مثل الحياة. ولا يعرف أسرارها إلا من يعرف عما يبحث، يقول كريستيان، وهو قاض متقاعد شغوف بأداة «ويكي» الإلكترونية التي تتيح تعديل صفحات موقع وإضافة معلومات إليها. وتترك الشبكة لكل «صياد» إعداد عدته أو استراتيجيته للصيد في محيط معلوماتها. ويقول فيكتور، وهو صحافي في ال33 من العمر، أنه يستقي المعلومات من مواقع لها صدقيتها مثل موقع صحيفة «لوموند»، لكنه لا يثق في المدونات إلا بعد تقويم نبذة معدها. وهو يطلع على حيوات أصحاب المواقع. فعلى سبيل المثل، يراقب حياة مالكي «ويكيبيديا» ليرى إذا كانوا يحصّلون عيشهم من الإعلانات. وتتكاثر المعلومات على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. فالصحافيون والجامعيون والفنانون يودعونها خلاصات أعمالهم. * مراسلة، عن «لو موند» الفرنسية، 25-26/8/2013، إعداد منال نحاس